قبل أيام أعلنت الحكومة الإيرانية تعيين سفير جديد لدى مليشيا الحوثيين في صنعاء. لاحقاً جرى استقبال السفير رسمياً في القصر الرئاسي، وفُرش له السجاد الأحمر، واستعرض حرس الشرف. لا يمكن قراءة الأمر إلا باعتباره تصعيداً إيرانياً، أو أنه عودة إلى نقطة البداية، باعتبار طهران ما زالت تخوض حرباً ضد الحكومة اليمنية.
هي بالطبع لم تتوقّف، لكن الإجراء العدواني يشير إلى أن طهران لا تأخذ الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً على محمل الجد، كما أن الأمر انطوى على عجرفة إيرانية تستهين بالقوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية.
المريب أن تصرف طهران يشير إلى طمأنينة إيرانية حيال الإقليم الذي زعم، قبل عشر سنوات، أنه يريد قطع ذراعها في اليمن، فمدها أكثر، وعقد معها اتفاقاً!
غير أن الأهم من كل ذلك هو أن هذه الغطرسة الإيرانية مرت بهدوء دون أن تثير حفيظة الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً.
هل وصلت الحكومة اليمنية إلى مرحلة اعتياد السلوك الإيراني، والتسليم به دون القيام بأي ردة فعل رسمية؟
السلوك الإيراني العدواني المُعلن ليس جديداً في الحالة اليمنية، فقد واصل طاقم بعثة طهران الدبلوماسية العمل في صنعاء رغم إعلان قطع العلاقة معها من قِبل الحكومة الشرعية عام 2015.
بعدها ذهب الطاووس باتجاه خطوات تصعيدية عندما سلمت سلطات الملالي مقر السفارة اليمنية في طهران لممثلي مليشيا الحوثي الموالية لها.
في العام 2020، ظهر حسن إيرلو -وهو قيادي مهم في الحرس الثوري الإيراني- كحاكم فعلي لصنعاء، والمشرف على العمليات العسكرية للمليشيا.
إلى جانب أنشطته المكثفة الميدانية والسياسية، كان إيرلو يظهر في القصر الرئاسي بصنعاء في لقاءات مع قيادات حوثية، وإلى جانبه علم إيران وحيداً، وكأنه يستقبل ضيوفه.
في قصة إيرلو يمكن التقاط بعض التواطؤات الإقليمية والدولية التي تمضي باتجاه ترسيخ قبضة إيران المشددة على صنعاء.
الرواية الراسخة أن الرجل دخل صنعاء عبر طائرة تابعة للأمم المتحدة، ورغم أن وجوده في صنعاء يعد خرقاً فاضحاً لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية المُعلنة عام 1961، فقد كان الرجل يلتقي في صنعاء ممثلي منظمات دولية، وهناك حالة موثقة للقاء جمع الرجل مع موفدة الصليب الأحمر الدولي.
ربما لم يكن في الحسبان أن سفير الدولة المعادية سيحصل على ما يشبه التكريم من التحالف العربي بعد وفاته في ذروة المواجهات أثناء الهجوم على مأرب، فقد سُمح لإيران بنقل جثمانه إلى طهران.
في هذه النقطة ربما علينا أن نتذكر أن إعلام هذه الدول أكد مراراً أن الرجل هو من يشرف فعلياً على العمليات العسكرية الداخلية والخارجية للمليشيا!
وعندما هرولت الرياض قبل عامين لإبرام اتفاق مع طهران، بوساطة صينية، لتهدئة سخونة العلاقات بين البلدين، كانت اليمن هي الساحة التي ستبدو فيها نتائج التهدئة واضحة المعالم والثمن.
لقد شاهدنا وتيرة متسارعة للاعتراف بالمليشيا الحوثية من قِبل الرياض، ثم ممارسة الضغط الهائل على الشرعية لتقديم التنازلات، وإبرام اتفاق مع المليشيا الخاضعة لسيطرة إيرن، بالتجاوز لكل القرارات الدولية.
هذه الخطة السعودية المستعجلة للخروج من المأزق اليمني لم تبطئها سوى تطورات العدوان الإرهابي الصهيوني على غزة.
من الملاحظ أن التنازلات السعودية على حساب اليمنيين، وعلاقة أبوظبي الحميمة بطهران، شجّعت على المزيد من الغطرسة الإيرانية، وكان إعلان تعيين محمد رمضاني سفيراً لها في صنعاء، قبل أيام، تعبيراً صريحاً عن الأريحية الإيرانية في التعاطي مع الملف اليمني.
لكن هل تكبح هذه التنازلات السعودية الحكومة اليمنية عن القيام برد فعل حيال السلوك الإيراني المتغطرس؟
الحق أن الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً ظهرت هزيلة وباهتة دبلوماسياً في إدارة ملف العلاقات الخارجية مع الدول، منذ اللحظات الأولى للحرب.
والسيِّئ أكثر أنها كانت تحاول مقاربة الملف بما يتفق كلياً مع سياسة دولتي التحالف كما حدث مع بشار الأسد مثلاً، وافتقدت للجرأة في التعامل مع المصالح اليمنية العليا بصورة مستقلة.
شاهدنا ذلك في التعاطي مع السلوك الإيراني الفج في استمرار سفارة طهران بالعمل في صنعاء، ثم في تسليم مقر السفارة اليمنية في طهران وإطلاق العنان لنشاط إيرلو العلني، وكذلك فتح السفارة اليمنية في دمشق لمليشيا الحوثي، واستقبال الحوثيين رسمياً من الخامنئي وبشار.
ما هو معلوم أن ملف السياسة الخارجية الإيرانية يقع تحت قبضة الحرس الثوري، وأن جميع البعثات الدبلوماسية في الخارج هي في مهمات عسكرية أكثر منها دبلوماسية، فماذا سيكون دور هذه البعثات في اليمن، حيث تخوض طهران حرباً كبرى؟
تمنح اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية في المادة (4) كافة الدول الأطراف في الاتفاقية الحق في الاعتراض على تعيين دبلوماسيين في دولة الاعتماد، وردهم دون إيضاح الأسباب.
هذا يعني أنه يتعيّن على الدولة، التي تسمى دبلوماسياً في بعثتها، أن تتأكد أولاً من موافقة الدولة المستضيفة.
في الحالة الماثلة، إيران لا تتصرف كلص يحاول أن يسرقك، أو يتجسس خلسة، بل تشهر حربها عليك، سواء من خلال شحنات الأسلحة، أو بالسطو على العلاقات الدبلوماسية.
ذلك يعني أن طهران تقوم بعمل لا يقل خطورة عن إعلان حرب رسمية ضد الجمهورية اليمنية ما يوجب تصنيفها كدولة معادية لبلادنا.
المشكلة أن الشرعية اليمنية لا تقوم بما يجب حيال هذا الملف. طوال فترة الحرب، كان ينبغي التعامل مع السفارة الإيرانية باعتبارها مقراً عسكرياً لدولة معادية خارج الاتفاقيات الدبلوماسية، أي التعامل معها كهدف عسكري.
أما في الجانب الدبلوماسي؛ فعوض تحويل الأمر إلى هجوم واسع ضد إيران في كل المحافل والأروقة الدبلوماسية من خلال حملة منسَّقة تُدار بكفاءة، وبصورة مستمرة، فقد بهتت ردود أفعال الحكومة من بيان يتيم أول الحرب إلى الصمت المُطبق مع تعيين رمضاني!
دائماً كان للحروب العسكرية شقها الآخر دبلوماسياً وسياسياً لا يقل ضراوة، وكان ينبغي مواجهة السلوك الإيراني بسلوك مضاد من باب التعامل بالمثل في الحدود الدنيا.
هناك وِجهات عديدة كان يمكن للحكومة اليمنية ردع إيران من خلالها بلا حصر، ولازالت متاحة: فتح قنوات اتصال مع شخصيات وقيادات إيرانية معارضة، استقبال قيادات كبيرة ومعتبرة مناوئة لنظام طهران، أو تكليف سفراء ودبلوماسيين يمنيين بمقابلتهم في العواصم التي يقيمون فيها، وإعلان ذلك عبر وسائل الإعلام.
هناك حركات تحرر عربية في الأحواز كان يجب أن تكون حاضرة في ذهن الدبلوماسية اليمنية كجزء من خطوط التحرك، والتواصل، وحتى اللقاءات.
هناك ألف طريقة وطريقة لإيذاء طهران، وشن حرب دبلوماسية عليها في كل محفل، غير أن السؤال: هل كانت الحكومة اليمنية تبحث عن طريق أصلاً؟
من الواضح أن الدبلوماسية اليمنية معطَّلة، وفي أحسن حالاتها مجرد تحرّكات تفتقد للإقدام والديناميكية، ورؤية المصالح القومية اليمنية.
الأخطر من كل ذلك أن علاقتنا بمحيطنا الإقليمي والدولي لا زالت مجرد صدى لعلاقة دولتي التحالف بالعالم ومرهونة بها!
يمكن ملامسة ذلك باليد، فقد باتت إيران تعلن حربها رسمياً على اليمن، وتسعى لتمزيقه دون أن يرتفع صوت حكومي واحد في ظل تحسّن علاقات دولتي التحالف بإيران!
هل هو رهاب الخوف من إزعاج الأشقاء، أم الإخفاق والفشل؟