احتفالات الشعب اليمني بعيدهم الوطني هذا العام وما رافقه من مظاهر منع من قبل الحوثيين سيكون نقطة فاصلة بين الطرفين فقد بات الأمر واضحا وباتت نوايا الحوثي مكشوفة أكثر من أي وقت مضى تجاه النظام الجمهوري الذي يعني للمواطن اليمني كل شيء.
توثق مقاطع الفيديو التي سجلتها عدسات هواتف المواطنين إطلاق نار وحملة اعتقالات حوثية طالت المحتفلين بذكرى ثورة 26 سبتمبر في مدينة إب، كما ترصد مصادرة الأعلام من المحتفلين في صنعاء، واحتجاز السيارات وتسجيل مخالفات مرورية على السيارات التي ترفع النشيد الوطني. بعد انتشار التسجيلات الأولى لهذه الانتهاكات قالت قيادات حوثية إنها تصرفات فردية، لكنها في حقيقة الأمر غير ما ادعته تلك القيادات.
قبل يومين وجه محمد علي الحوثي بمنع أي مظهر من مظاهر الاحتفال. نشر الحوثيون، منذ يومين، النقاط المسلحة لانتزاع العلم اليمني من أيدي المواطنين ومن سيارتهم، وهو مؤشر واضح على موقفهم من ثورة 26 سبتمبر والنظام الجمهوري، طوال السنوات الماضية ظلوا يخفون نواياهم، قبل أن يعلنوا موقفهم صراحة هذا العام، وهي خطوة من ضمن خطوات عديدة هدفها القضاء على الجمهورية، وقد تكون الخطوة الأخيرة في هذا السياق ما سيعلنه عبدالملك الحوثي بعد يومين تحت عنوان "التغيير الجذري"!
أخبرني صديق مقيم في صنعاء أن الحوثيين لسنتين على التوالي فرضوا على ابنته وابنه وهما طالبان في جامعة صنعاء حضور اجتماعات تتعلق بأنشطة طلابية (هلامية) في يوم 26 سبتمبر في الجامعة رغم أنهما يدرسان طوال الأسبوع في الجامعة. هذه الخطوة تأتي في سياق التقليل من شأن هذا اليوم العظيم وقتل معاني الاحتفال بهكذا ذكرى وطنية. دعونا نعود إلى الوراء.
ما أن تمكن الحوثي من إحكام قبضته على السلطة بعد انقلابه في 21 سبتمبر 2014 حتى شرع بإجراء عملية تطييف واسعة هدفت إلى تجريف الهوية اليمنية الجامعة وإحلالها بأخرى طائفية تتسق وتوجهاته العنصرية، ولأن ثورة 26 سبتمبر المجيدة كانت الحد الفاصل بين الملكية الإمامية بطغيانها وتخلفها وسوءاتها التي لا حصر، وبين الجمهورية التي حصل اليمنيون من خلالها على الكثير من حقوقهم وأولها مبدأ المواطنة المتساوية فقد شرع الحوثيون باستهداف كل منجزات 26 سبتمبر، لكن الأمر تفاقم أكثر وأكثر بعد انتفاضة 2 ديسمبر 2017 وتصفيتهم للرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، إذ باتوا بحكم الأمر الواقع يتحكمون بمفاصل السلطة بلا منازع.
وفقا لخطة منهجية ومزمنة بدأ الحوثيون باستهداف - بل اغتيال - روح الثقافة الجمهورية المرتكزة على أهداف الثورة وإفراغها من مضامينها، فعملوا على نشر الأفكار الطائفية عبر الدورات الثقافية ووسائل الإعلام والمساجد والدورات الصيفية وبث كل من شأنه أن يهيئ الناس لحكمهم السلالي البغيض، وإعادة إحياء الطبقية بين الشعب اليمني على اعتبار أنهم السادة وبقية الشعب اليمني مجرد عبيد.
قبل سنوات أسقط الحوثيون أهداف ثورة 26 سبتمبر الستة من جوار ترويسة صحيفة الثورة الرسمية، وهو عرف بقي دارجًا منذ صدور الصحيفة، ووضعوا صورة حسين بدر الحوثي بدلا عنها، وذات الأمر حصل مع صحيفة 26 سبتمبر، وهي الصحيفة الناطقة باسم الجيش اليمني.
وقبل شهر من اليوم وزع الحوثيون مناهج التعليم لطلاب المدارس بعد أن عملوا على إسقاط وتعديل نصوص بعض أهداف الثورة الجمهورية الستة ومنها حذف فقرة "إزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات" من الهدف الأول لثورة 26 سبتمبر المجيدة في كتاب التربية الوطنية للصف الخامس، وهي خطوة خطيرة للغاية تؤكد أن الحوثي بخلفيته السلالية وتوجهاته العنصرية والطائفية قد قرر المضي وبأسرع ما يمكنه للعودة باليمن إلى عصور التخلف والاستبداد، واستعباد اليمنيين وتقييد حرياتهم وحرمانهم من مبدأ المواطنة المتساوية التي قامت من أجلها وجاءت بها ثورة سبتمبر.
ثمة شواهد أخرى كثيرة على مضي مليشيا الحوثي في تجريف وطمس الهوية اليمنية لإحلال ثقافتها الطائفية بديلا لها، سواء في تعديل المناهج التعليمية، أو في تغيير أسماء المدارس إلى أسماء جديدة بأسماء قتلاها بدلا من أسماء مناضلي الثورة والجمهورية وغيرها من الأسماء الوطنية، أو بما يتوافق مع سعي الجماعة لفرض نمط طائفي أحادي وإلغاء كل ما له علاقة ببقية فئات الشعب اليمني على الصعيد الفكري والعقائدي.
في الثلاثة الأعوام السابقة استبدل الحوثي -في صنعاء وبقية المحافظات التي يسيطرون عليها- اسم مدرسة العلامة والمؤرخ اليمني العظيم نشوان بن سعيد الحميري، وهو المعروف باعتزازه بيمنيته وعروبته وحميريته، إضافة إلى مقارعته للإمامة ورفضها وتعريتها سواء في نتاجه الشعري أو مؤلفاته الفكرية والتاريخية، واستبدل اسمه الذي التصق بالمدرسة لأكثر من نصف قرن باسم هاني طومر، والأخير طفل لم يتجاوز السادسة عشر من عمره، من مديرية حيدان بمحافظة صعدة، استقطبته وغررت به الميليشيا فقتل في صفوفها.
وعلى ذات النمط استبدلت مدرسة صلاح الدين الأيوبي إلى مسمى عدي التميمي، وهو صريع آخر لقي حتفه في صفوفها، فيما عرف عن صلاح الدين الأيوبي أنه من أنهى حكم الفاطميين في مصر، ومدرسة الزبيري المسماة باسم محمد محمود الزبيري أحد أبرز المناضلين ضد حكم الأئمة خلال القرن الماضي صار اسمها مدرسة الإمام الهادي.
عشرات المدارس الأخرى اُستبدلت أسمائها بأخرى إما لتغييب الرموز الوطنية اليمنية أو لأسباب عقائدية بحتة ومنها على سبيل المثال لا الحصر استبدال اسم مدرسة الفاروق إلى اسم مدرسة الإمام زيد بن علي، وعثمان بن عفان، إلى مدرسة مالك الأشتر، ومدرسة عمر المختار إلى مدرسة علي بن الحسين، ومدرسة كمران إلى شهيد القرآن وهو اللقب الذي اعتمدته الميليشيات لمؤسسها الصريع حسين بدر الدين الحوثي، وقس على ذلك الكثير.
موجة التغيير الطائفية هذه لم تقتصر على المدارس بل طالت شوارع ومستشفيات ومؤسسات حكومية في العاصمة صنعاء وبقية المحافظات. رغم ذلك فمن الواضح أن اليمنيين يرفضون هذا التوجه الحوثي رفضا قاطعا، ويمكننا ملاحظة ذلك من خلال مظاهر الاحتفال الكبيرة والكثيفة بثورة 26 سبتمبر في مناطق سيطرة الحوثي رغم المنع والقمع، أو في ما ينشره الساكنون في مناطق سيطرة الحوثي على مواقع التواصل الاجتماعي من آراء واعتراضات على هكذا خطوة واستهجانها، كما يمكننا قراءة ذلك الرفض علنًا وبطريقة غير مباشرة في تفاصيل المناسبات الاجتماعية كحفلات الزواج أو التخرج حيث باتت تفتتح دائما بالسلام الجمهوري وفي الخلفية تظهر صورة الطير الجمهوري وهو الشعار الرسمي للجمهورية اليمني وبالمثل نجد اللغة اليمنية القديمة وقد أردفت بالعربية على حوائط وأعمدة قاعات الاحتفالات، وكذلك في الدعوات التي يوجهها العرسان إلى حفلاتهم حيث تحتوي الدعوة على صورة العريس وخلفة الطير الجمهوري.
هذه ظاهرة جديدة لم تكن موجودة قبل احتلال مليشيا الحوثي لصنعاء وسيطرتها على أجزاء واسعة من البلاد. من الجيد أن مليشيا الحوثي قد فضحت نفسها وأكدت لجميع اليمنيين أن ما كنا نحذر منه هو الواقع، فهدف هذه المليشيا هو إعادة الشعب اليمني إلى خانة العبودية، والأجود من ذلك أن كل تصرف أرعن يمارسه الحوثيون بات مرصودًا بأدوات التكنولوجيا التي صارت اليوم بمتناول الجميع لتوثيقه ونشره للعامة ليقفوا على حقيقة هذه الميليشيات العنصرية العائدة من ظلمات التاريخ. الجمهورية باقية وشعلة 26 سبتمبر ستظل خالدة إلى الأبد.