يجري نقاش محتدم في الوسط الفكري والتربوي والسياسي حول مناهج التربية والتعليم ومدى تعرضها للتجريف في البلدان التي سيطرت عليها بعض الجماعات الدينية ” الكهنوتية” أو العلمانية “المتطرّفة”، أو سواها من أطياف الفكر والسياسة، فرأيت أن أقدّم هذه الإضاءة حول الموضوع، راجيًا أن يكون فيها ما قد يضيف ويجلي الإشكال. أؤكد ابتداء حقيقة مجردة معروفة في العالم كله، وليس في بلداننا فقط، كما ليس لدى المختصين في أصول التربية وفلسفتها والمناهج وأصولها فحسب، وفحواها أن كل حزب وما في حكمه، يسيطر على السلطة في أي مجتمع شرقي أو غربي، يسعى ليسخّر مؤسسة التربية والتعليم وبالأخص المناهج لخدمة ما يؤمن به ويعتقده الصواب .
تلك حقيقة يدركها الجميع أو هكذا يُظن. وهذا توصيف لا تبرير بطبيعة الحال. التربية في الغرب: والآن لنأتِ أولًا إلى تطبيقات تلك الحقيقة الموضوعية النظرية في الغرب مثلًا، فلا شك أنهم يسعون لتحقيق ذلك، كما غيرهم، لكن السؤال الأهم: لِمَ لا نجد لديهم اتهامات متبادلة، على نحو ما يقع لدينا، بتسخير ذلك الحزب أو تلك الجهة مؤسسة التربية لخدمة أجنداتهم الحزبية والفئوية؟ لأنهم في الغالب الأعم، لا يسخرونها لأجنداتهم الخاصة، على نحو يذكر، بل لترسيخ ثوابت المجتمع وقيمه وفلسفته الاجتماعية والثقافية، وفق مفهومهم لثوابتهم وفلسفاتهم وثقافاتهم، وربما جرّت تطبيقاتهم إلى قدر محدود من تلك التهمة، لكن لا يمكن مقارنتها بما يجري لدينا.
التربية في مجتمعاتنا:
ولنأتي الآن إلى واقع مجتمعاتنا العربية بصورةٍ عامة واليمن على نحوٍ أخص، وهنا ينبغي أن نفرِّق بين مسلكيْن، وعلى عكس المنطق المعروف أن نبدأ بالنظري قبل العملي؛ فسأبدأ بالعملي قبل النظري لانفكاك الصلة بين الأمرين هنا:
المسلك الأول: العملي: أي تقريب أشخاص واستبدال بعض مواقع الأعضاء الحزبيين أو الموالين والمقرٍبين بآخرين وتوظيف من هو مع الحزب أو ما في حكمه وحرمان غيره، ومنح بعض الموالين امتيازات لا يستحقونها، على حين يحرم غيرهم وقد يستحقونها، هذا حدث هنا وهناك، وفي مجتمعنا اليمني قبل غيره، عبر كل الحقب والمراحل، وإن اختلفت النسبة، بين مرحلة وأخرى وطرف وآخر، وهو أمر لا ينكره منصف حرّ شجاع، حريصا على المراجعة الجسورة، لا على حشد سيل التبريرات، كيفما أتفق.
المسلك الآخر: نظري يتمثل في الحفاظ على الثوابت والقيم والأصالة، كأن يسيطر حزب أو جماعة أو طرف سياسي ما كليا أو جزئيا على مؤسسة التربية، على نحو مباشر أو غير مباشر، فيسعى ليؤكد في المناهج بالخصوص، ما يوصف بأنها أجنداته، ولكنها – في واقع الأمر- تتمثل مثلا في تعزيز أصالة المجتمع وقيمه الكلية والجزئية والحفاظ على ثوابته الشرعية والوطنية، وفلسفته الاجتماعية والثقافية.
وهنا نتساءل: هل يؤخذ عليه ذلك؟ بل ما الفرق بينه هنا وبين الأحزاب الحاكمة في الغرب من هذه الناحية؟ أي من حيث الحرص على ثوابت المجتمع وقيمه وفلسفته الاجتماعية والثقافية، لا أظن أن هناك فرقا حقيقيا يذكر. إذن، هل يمكننا التمييز الآن بين المسلكين السابقين: المسلك العملي المرفوض حقيقة، مهما حشد له كل طرف من مبررات، والمسلك النظري المختلف كلية عن العملي، بل هو في الحقيقة هنا المنشود، إذ يمثل لسان حال كل فرد وطني حر وجاد، منتميا إلى وطن ذي هوية واضحة، وموال لفلسفة اجتماعية، وثقافة مستمدة من دينه ومعتقداته. التربية بين الثوابت والتسييس (الجماعات الدينية والوطنية والعلمانية): يبقى الأمر الذي لا يقل أهمية عما سبق وهو وجود أحزاب أو جماعات أو فئات أو حتى توجهات فردية تتمكن من السيطرة على مؤسسة التربية والتعليم، كليّا أو جزئيا، على نحو رسمي مشروع مباشر، أو على نحو غير رسمي وغير مشروع، وهي أربعة أقسام كليّة:
الأول: اتجاه ديني (كهنوتي عنيف) الاتجاه الثاني: ديني (سياسي سلمي) الاتجاه الثالث: وطني (يمين الوسط) الرابع: علماني (يساري – ليبرالي). وأشير في مستهل هذا التقسيم والتفريع أنه لا يقصد بالعناوين السابقة الحدّية في التناول، بحيث يقصد بالاتجاهات الدينية مثلا أن من عداها متجرّد من الدّين، أو معاد له بالضرورة، أو أن الاتجاهات الوطنية تحتكر الوطن وتصادر حقا غيرها في الانتماء إليه والدفاع عنه، وكذا فإن الاتجاهات العلمانية لا يعني أنها تمتلك حق التجديد والتنوير، أو ما يحلو لها وصفه بالحداثة وحدها، وأن غيرها عالة عليها في ذلك، بيد أن المقصود هنا إبراز أكبر ملمح في اتجاهاتها جميعا بما يجعلها متميّزة به عن غيرها، ليس أكثر. وهاك التقسيم المشار إليه على
النحو التالي: الاتجاه الأول: الديني (الكهنوتي العنيف): والمقصود به تلك الجماعات التي تتبنى فكرًا أيديولوجيًّا مغلقًا معينًا، تعتقد أنه الحق وحده، ومن خالفه حتى في جزء منه، فقد خالف الحق وعصى الله وخرج من الدّين، كليًّا أو جزئيًّا، واستحق القتل، إذ لا مجال للخطأ والصواب لديها، والمسألة مختزلة في حق محض وباطل محض، ولا مجال هنا سوى للسمع والطاعة، وتنفيذ ما تعقده أمر الله واجب التنفيذ على الفور، لا فرق بين أصل وفرع، ولا كلي وجزئي، ولا ثابت ومتغيّر، ومثال هؤلاء الواضح الصريح جماعات القاعدة وداعش والمسميات الأخرى المشابهة في المنطقة، كما هو شأن تيار الحشد الشعبي في العراق، وجماعة الحوثيين في اليمن، تلك التي تمكنت من السيطرة على الحكم والدولة، منذ ٢١/٩/٢٠١٤م، بما في ذلك مؤسسة التربية والتعليم، حتى أنها جعلت شقيق مؤسس الجماعة وزيرا لها، منذ أعلنت حكومتها المسماة بالإنقاذ الوطني في ٢٠١٥م، وعلاوة على وقوعها في المسلك العملي الأول المشار إليه، فإنها قد قامت بما لم يقم به أي طرف من قبلها، من حيث حرمان قطاع المعلمين وغيره من مرتباتهم وحقوقهم المادية والمعنوية الأخرى على مدى حكمها، الممتد منذ نحو تسع سنوات حتى الآن، وإقصاء كل من تشعر بأنه مختلف معها أو حتى غير مساير لأطاريحها، فتبعده تماما أو تهمشه في أحسن الأحوال، وقد تختطفه وتلقيه في أي معتقل، أو تصفيه جسديا أحيانا، إن شعرت بأي هاجس “مقلق” تجاهه، وثمة حالات تفوق الوصف هنا من فئة المعلمين والمسؤولين الإداريين السابقين في وزارة التربية والتعليم.
وأما المسلك الآخر المتمثل في الجانب النظري فتزيد اليوم فتعمد علانية إلى شرعنة مسالكها بدعاوى صريحة مفادها أن لها امتيازا خاصا من السماء (الحق الإلهي)، وأن لسلالتها من الاصطفاء ما ليس للآخرين من أبناء المجتمع اليمني، كما أن لها حقوقا كثيرة اختصها الله -تعالى- بها، ولا ينبغي منازعته في حكمه وحكمته وفضله على من يشاء…. وهنا تعمد إلى الخروج الصريح عن ثوابت المجتمع اليمني الدينية والوطنية المعلومة، في فلسفتها التربوية وسياستها التعليمية، وفي مقدمتها تغيير المناهج صراحة، سنة بعد أخرى، وتغيير ذهنية الجيل بأنشطة موازية ومراكز صيفية مكثفة، وأخيرا بإنشاء ما يسمى بمدارس الشهيد القائد، كما بلغ الأمر حد حذف أجزاء جوهرية ذات دلالات خطيرة وواضحة من أهداف ثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م، من مناهج التربية والتعليم، كما في كتاب التربية الوطنية للصف الخامس أساسي، طبعة ٢٠٢٣م، وذلك لتتسق مع أطاريحها الأيديولوجية الخاصة – وليس دين المجتمع العام وقيمه وفلسفته الاجتماعية والثقافية المتفق عليها .
الاتجاه الثاني : الديني( السياسي السِلْمِي ): وهذا القسم وقع فيما وقع فيه الآخرون على المستوى العملي، من حيث الإقصاء للمخالف، وتقريب الموالي، وجوهر الإشكالات العملية المشار إليها آنفا، حين أمسك بزمام مؤسسة التربية في بعض المراحل، كليّا أو جزئيا، وغالبا ما ينكر صدور ذلك عنه، وقد يبرر لمسلكه بأي تبرير، لكن لا مستند أيديولوجي له – معلن على الأقل- ولا ادّعاء بحق إلهي، يصدر عنه، أو مشروعية خاصة يتدثّر بها، ورغم ذلك فإنه مسلك مدان ومرفوض على أي حال، لا يجوز تبريره، أو التهوين من شأنه، ولكن – في الوقت ذاته- لا يجوز مقارنته كذلك بسلوك الجماعات العنيفة والعنصرية الكهنوتية، كما في الاتجاه الأول لاختلاف الفكر والأيديولوجيا النظرية، في ما يتعلق بالحفاظ على الهوية والثوابت والقيم والفلسفة من جهة، ولاختلاف مستوى المسلك العملي ودرجته إلى حدّ كبير، من جهة أخرى فالأمر جدّ مختلف على المستويين.
الاتجاه الثالث: وطني ( يمين الوسط) والمقصود بهذا الاتجاه ذلك التوجّه العام الذي يبرّز في خطابه بالقضايا الوطنية، ومع أنه فسيفساء متناقضة أحيانا، وقد يجمع بين ذوي التوجّه الديني التقليدي والعلماني التقليدي كذلك، وأصحاب المبادئ والمصالح الانتهازيين، وربما ضمّ من يحسب على التشدد في الاتجاهين الديني والعلماني، وقد يتماهى في بعض مواقفه مع الاتجاه الديني الكهنوتي العنيف، إذا قضت مصلحته بذلك، كما ولا يولي الخطاب الديني عادة أهمية أو أولوية تقارن بالاتجاه “الديني” لكنه في الوقت ذاته لا يشتهر بمعاداة الدين وثوابته، ولا يسيء إليها، كتوجّه عام لديه، بل قد يصطف أحيانا إلى جانبها أو بعضها، ولكن ليس كأولوية .
وهو من حيث أمر التربية والتعليم-بيت القصيد هنا- لا يخرج في مسلكه العملي عن الاتجاهين الدينيين السابقين، والاتجاه السياسي السلمي خاصة، أي أنه يقرّب الموالين ويبعد المخالفين، ويستفرد بما يعدٌه غنيمة السلطة، ويقع في الشللية الحزبية والعائلية كذلك، أما على المستوى النظري في شأن التربية والتعليم والمناهج التربوية خاصة، فهو تارة يحافظ على الثوابت الدينية والوطنية فيها، ويقدّم مواقف مشرّفة في ذلك، وتارة أخرى قد يساوم على بعضها، وخاصة الدينية منها، وقد يتنازل عن بعضها، وقد يضطرب في ذلك، ويسوق مسوّغاته غير المقنعة ولا المقبولة، إذا وضعناها على محك المعايير الثابتة بيقين. وعلى كل حال فيصعب ضبط إيقاع مواقفه بدقّة، سواء؟ على مستوى المواقف العامة، أم التربية خاصة، لاسيما أنه يرفع أحيانا شعار “البراجماتية” صراحة في خطابه .
الاتجاه الرابع: العلماني: (يساري -ليبرالي) وهذا الاتجاه من الأحزاب والأيديولوجيات بشقيه اليساري والليبرالي: نقيض الجماعات الدينية بشقيها السلمي الوسطي والكهنوتي العنيف المتطرف، من حيث النظرية والأيديولوجيا، كما هو ليس على وفاق دائم مع الاتجاه الوطني، حيث يرى: الليبراليون فيه النموذج الغربي قِبلتهم في التوجّه ومنارتهم في الهداية، كما يرى بعض اليساريين فيه ذلك النموذج المنشود، وإن ظلت قناعات أكثرهم الأيديولوجية اليسارية القديمة محتفظا بها كذلك. والمفارقة هنا أنه رغم كل ما تقدّم يلتقي أحيانا طرفاه، أو بعض أعضائه وأنصار فكرته، حتى ممن لا يوالونه تنظيميا وسياسيا مع جماعة العنف الحوثية في اليمن أو الحشد الشعبي في العراق أو نظيرهما “حزب الله” في لبنان، ويفزعك التناغم بين أيديولوجيا ماركسية تقدّمية-مثلا- تنادي “بالحداثة والتنوير” أو ليبرالية براجماتية، ترفع عقيرتها ليل نهار، بمحاربتها للدولة “الثيوقراطية” الدينية، وحكم رجال الدّين، لكنه يتعامى عن ذلك كله في الجماعات الكهنوتية المشار إليها، وأيديولوجياتها الدينية الكهنوتية المصرّحة بالحق الإلهي، والتميّز على الخلق سلالياً وعِرقيا، ولا يجده ساطعا صريحا إلا في نقائضها المذهبية ” السنيّة” أو لدى الجماعات الدينية السياسية السلمية، ولعله ينطلق في ذلك من قاعدة يعبّر عنها في المثل الشعبي اليمني ” ما تكسر الحجر إلا اختها”، أو بالتعبير العربي الفصيح ” ما يفلّ الحديد إلا الحديد”، والمقصود أن الخطاب الإسلامي السياسي السلمي المؤثر شعبيا يصعب مواجهته بخطاب علماني لدى شعب متديّن، فدع الخطاب الديني الكهنوتي يقارع الخطاب الديني السلمي!
ومع أن هذا الاتجاه بشقيه اليساري والليبرالي سلك في كل مكان سيطر عليه ذات المسلك الذي وقع فيه غيره من حيث إقصاء المخالف وتقريب الموالي ومنح الامتيازات لأعضاء الحزب والشلة، لكن اليساريين زادوا على ذلك حين دالت لهم الدولة في بعض دول المنطقة، فاستخدموا العنف المفرط تجاه خصومهم الدينيين السلميين خاصة، وفرضوا أيديولوجياتهم بالقوة في المناهج التربوية ووسائل الإعلام ومنابر التوعية. وغني عن القول بعد كل ما تقدّم أن موقف هذا الاتجاه من ثوابت المجتمع الوطنية والدينية وفلسفته الاجتماعية والثقافية وقيمه غير مراعاة، خاصة تلك المتصلة بالدّين، وفي البلدان التي حكم فيها، فرض القيم الغربية على مؤسسات التربية ومناهج التعليم خاصة، بكل إمكاناته، وبدعم غربي مباشر له، ويقدّم ذلك بوصفه النموذج الحتمي للتقدّم والنهوض!
وحاصل القول: مالم تنطلق فلسفة التربية في مجتمعاتنا من ثوابت المجتمع الشرعية والوطنية وفلسفته الاجتماعية والثقافية؛ فسنظل في صراع سياسي وفكري وتربوي واجتماعي، يعود بنا إلى المربّع الأول في سلّم التحوّل من مجتمعات متخمة بالتخلّف والأمراض الفكرية والتربوية والسياسية والاجتماعية إلى مجتمعات يقظة فاعلة تقود عملية التغيير الإيجابي البنّاء، كل في مجتمعه.