ثلاثة أسئلة طرحها عليّ الزميل أحمد الأغبري -مراسل صحيفة "القدس العربي" في صنعاء- تتمركز حول:
حالة الجمود السياسي والعسكري، التي تعيشها اليمن، ولم يُسمع خلالها عن أي خطوة للأمام باستثناء مفاوضات الحوثيين مع السعودية بوساطة عمانية(*).
أيضاً كيف يمكن تفسير فشل المجلس الرئاسي خلال قرابة عام ونصف من تشكيله في تحقيق أي اختراق؟ وأخيراً لماذا يُراد إبقاء الضعف حالة يمنية عامة "ضعف السلطات عن مواجهة تحديات الواقع، واتخاذ قرارات مصيرية تستوعب هذه التحديات، وتستجيب لتطلعات المستقبل؟".
(**)
بعد مرور عشرين يوماً من انتهاء الهدنة الثالثة، في الثاني من أكتوبر 2022، كتبت عن حالة "لا هدنة الحوثيين ولا حرب التحالف"، معتبراً أن اليمن المتهتكة صارت في المنطقة الرمادية تماماً.. فمنذ تسعة أعوام لم تعش البلاد في اللا هدنة واللا حرب كما هو الحاصل اليوم.. اختار الفرقاء هذه المساحة (الاستراحية) لاختبارات عدة، ليبنوا عليها تقييماتهم للمكاسب التي ستُجنى من هذه الحالة شديدة الالتباس.
في فترة اللا هدنة هذه نشطت الزيارات بين صنعاء والرياض لإنجاز تسويات خاصة بين الحوثيين والسعودية؛ بعيداً عن الشرعية. الغطاء المعلن عنها أول الأمر كان موضوع الأسرى بين الطرفين، والأصل فيها البناء على تنسيقات وتفاهمات كبيرة تأسست على لقاءات ظهران الجنوب قبل ستة أعوام "أبريل 2017"، وصولا إلى لقاءات المنطقة الخضراء في 2021 بين السعوديين والإيرانيين برعاية عراقية، كان الملف اليمني فيها الحاضر الأبرز..
وتجلى الأمر بوضوح لاحقاً من زيارة الوفدين السعودي والعماني لصنعاء، في أبريل الماضي، حين وضعا أسس التسوية السعودية الحوثية، على ضوء الاتفاق الإيراني - السعودية الذي وُقع في بكين في 10 مارس..
السعودية كانت هنا قد اختارت في مسعاها هذا الطريق الأقصر بالتفاهم مع إيران؛ كون الأخيرة هي الفاعل الرئيس في حرب اليمن، وتستطيع التأثير على أدواتها ووكلائها في الداخل (جماعة الحوثيين).. أما الأطراف الأخرى من وكلائها ووكلاء حليفتها (الإمارات) فتستطيع قيادتهم إلى ما ترغب به، بدليل أن تفاهماتها السريّة والعلنية (في بكين ومسقط وصنعاء) تمّت دون الرجوع إليهم أصلاً.
هذه المنطقة الرمادية المائعة يراكم عليها الطرفان مكاسبهما على حساب اليمنيين، (لا هدنة) الحوثيين تبقيهم متنصلين من كل التزاماتهم الأخلاقية تجاه المجتمع من دفع المرتبات وفتح الطرقات ورفع الحصار عن المدن والإفراج عن المختطفين وإرخاء القبضة الأمنية تمهيداً لانخراطهم في العملية السياسية.. فحالة اللاهدنة هي استعداد قتالي دائم في التحشيد (**) والتهيئة وتوجيه الموارد وتوظيفها، وقبل ذلك جبايتها، وهي الحالة الصريحة التي تراهن عليها الجماعة في تشبثها بالسلطة بحكم ما تحت يدها..
سلطة تتنفس بخطاب التحشيد، ولا تريد الاقتراب من خطاب السلام، أو أي تفاهمات تقود إليه؛ لأنها صممت كحركة لهذا الغرض، وهُندس لحضورها في حياة اليمنيين؛ باعتبارها مخلبا وذراعا أمنيا لطرف إقليمي (إيران) منخرط في حرب اليمن كوسيلة من وسائل التنفيس عن احتقاناته الداخلية الكبيرة، وأزماته السياسية والاقتصادية؛ بتصديرها إلى جواره العراقي، ومناطق الهلال الشيعي في سوريا ولبنان، وتلعب سلطة طهران على كل المتناقضات التي من شأنها المساعدة في بقاء نظام "الولي الفقيه" حاكماً مطلقاً في قلب العواصف.
وبمقابل لا هدنة الحوثيين، هناك "لا حرب التحالف" الذي يعفي السعودية والإمارات، ومن ورائهما الغرب وأمريكا، من الغرق أكثر في المستنقع اليمني.. فخلال تسع سنوات، أغرقت دولتا التحالف اليمنيين بحرب عبثية لا حدود لها، لم تقضيا على الانقلاب الحوثي، ولم تقطعا أذرع إيران في المنطقة.. بل عملتا على تفكيك الدولة، وتسليمها إلى مليشيات طائفية وجهوية وقروية تعمل تحت لافتات سائلة، تلعب على مشاعر العامة وعواطفهم بوعود دنيوية وأخروية.
لقد أنجزت الدولتان الغنيتان مهمتهما القذرة في تفكيك اليمن، وتكريس جماعة الحوثيين كسلطة قوية، صار التعامل معها، والخضوع لابتزازها الدائم، أمرا لا يمكن التستر عليه.
من حالة اللا حرب هذه ستضمن الدولتان عدم وصول المسيّرات والصواريخ الحوثية إلى أراضيهما، ولن ترتبك الحياة فيهما، بما فيها استمرار تدفق النفط إلى المناطق المتأثرة بنقص إمدادات الطاقة في أوروبا والعالم؛ بسبب تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية، وهو الأمر الذي يسعى إليه مهندسو المنطقة الرمادية على حساب اليمنيين.
نعود ونقول إن ترتيبات التسوية السياسية، التي تهندس لها السعودية في اليمن، هي في الأصل رغبة أكيدة للخروج من المأزق الذي وجدت نفسها فيه بعد تسع سنوات من حرب عبثية أكلت الأخضر واليابس في حاضر ومستقبل اليمنيين، واستنزفت مليارات الدولارات، التي ابتلعها ثقب أسود اسمه وكلاء المتحاربين الإقليميين في الداخل.
بالتزامن من إعلان الهدنة الأولى في أبريل 2022، مررت دولتا التحالف طبختهما بتشكيل مجلس القيادة الرئاسي، بعد المشاورات (اليمنية - اليمنية) الصُّورية، التي أعلن عنها مجلس التعاون الخليجي أواخر مارس من العام ذاته في العاصمة السعودية (الرياض)، وأزاحت بموجبها الرئيس عبد ربه منصور هادي ونائبه علي محسن الأحمر، وصعّدت بدلاً عنهما مجلساً صورياً مناصفة بين الشمال والجنوب، تتوزع ولاءات أعضائه بين العاصمتين (الرياض وأبو ظبي)، ويتوزّعون جغرافياً على مناطق "صعدة وصنعاء وتعز ومأرب وحضرموت وشبوة والضالع ويافع"، في تمثيل جهوي صارخ بلبوس حزبية ومليشاوية فاضحة.
هذا المجلس لا يمثل مشروعاً وطنياً جامعاً لليمنيين، بقدر ما يمثل مفاعيل القوة على الأرض، ولهذا لم يحدث هذا المجلس أي اختراق؛ لأن قراراته ليست بيده.
عملت السعودية، طيلة سنوات الحرب، على إنتاج قاعدة لتوازن الضعف تقف عليها جميع الأطراف الخاضعة لها ولحليفتها (الإمارات)، ومن كان خارج سيطرتها الفعلية، ولم يقف على القاعدة ذاتها هي الجماعة الحوثية، التي كان ولاؤها الإيديولوجي والسياسي، ولم يزل، لإيران، ولهذا اختارت الطريق الأقصر بالتفاهم مع الراعي أولاً، وما تم التفاهم حوله بين الدولتين هو الذي سيكون، وسيمضي وسيتحقق، خصوصاً وأن رغبة دولية وإقليمية تدعم هذا المسار، بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا، لتخفيف الضغط على أسواق الطاقة الدولية المتأثرة بالحرب الروسية - الأوكرانية؛ كون دولتي التفاهم اللاعبتين الرئيسيتين في حرب اليمن هما من أهم منتجي الطاقة.
دخول الصين على خط الترتيبات القبلية ونجاحها في رعاية الاتفاق الأمني والسياسي بين الدولتين سيكون له الأثر الفاعل في إنجاح طبخة التسوية، التي ستترتب عليها حالة شرق أوسطية جديدة، سيكون الاقتصاد هو الفاعل الرئيس في علاقة الشراكة المستقبلية بين دول الإقليم.
ربما يلمس اليمنيون، في الفترة المنظورة القادمة، انفراجه من نوع ما، غير أن الجزم بالبناء على هذه التفاهمات للوصول إلى حالة سلام مستدام في البلد المتشظِّي أمر مستبعد تماما؛ بسبب التناقضات الكبيرة والولاءات المتعددة، وأيضاً جملة المكاسب التي جنتها بسبب حالة الانفلات والفوضى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) والتي لا يُعرف أين وصلت، وما يتم تداوله عبر وسائل مختلفة، بشأن نتائج معلومة، ليس أكثر من تكهنات، لتعود الأمور إلى حالة الضبابية؛ التي تتجلى بوضوح في خطابي طرفي الصراع، وكأن الجميع لا يزال في المربع الأول.
(**) في 20 يونيو الماضي، نشرت وسائل إعلام حوثية مقاطع فيديو وصورا لمسيرات راجلة لمقاتليها، قدموا من محافظة ذمار إلى تعز للتمركز في مناطق التماس، في رسالة مزدوجة للداخل والخارج، ملخصها أن الجماعة لا أجندات سلام في مشروعها الابتلاعي، مادام خصومها في حالة تشرذم وضعف.
* قناة بلقيس