إن المتأمل لحال المسلمين اليوم يجد الكثير من المفارقات بين الصلف ، بين التشدد واللامبالاة، قد يكون جَهلاً، وقد يكون تقليداً وموروثاً، وخير الأمور أوسطها، فقارئ القرآن الكريم الذي يجهر بصوته ليس من الأخـــلاق، لا مع الله ولا مع عباده، خاصة وإن كنت بين قوم يعبدون الله مثلك، فإذا أستشعر القارئ أن الله جلَّ جلالهُ يكلمُّه حين يقرأ، فليكن كلامك مع ربِّ العزةِ والجلالِ بهدوءٍ وروية وانكسار، اتزان وتدبر، وتحسسٌ للمعاني، والغوص في أعماق مُعجزات آيات القرآن.
رفع الصوت، والمجاهرة به أثناء قراءة القران الكريم، أذيةٌ لمن حولك، وتشوش عليهم، بل وتجعل من قراءتك مَسلكاً للشيطان يدبُّ من خلاله، وقد قال بعض السلف قد يكون الجهر المبالغ به من صور النفاق، فإن كان هناك ثلةٌ مثلك في مكان ما، يقرؤان ويجاهرون بأصواتهم المرتفعة، فلتعلم أن الطمأنينة والخشوع والتدبر والسكينة وكل معاني الخشوع والتخشع، قد ذهبت عنك وعن من حولك، وقد وردت هذه الفتوى للشيخ سليمان بن عبدالله الماجد حين سُئل عن رفع الصوت أثناء القراءة فقال: "لك رفع صوتك بالقراءة بحيث لا تزعج أحدا أو تشوش على من بقربك من قارئ أو مُصل؛ فقد ثبت في "السنن الكبرى" للنسائي (3/386) عن عطاء بن يسار، عن رجل، من الأنصار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مجاور في المسجد يوماً فوعظ الناس وحذرهم ورغبهم، ثم قال: «إنه ليس من مصل إلا وهو يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن». وقد ورد أيضاً، في السلسلة الصحيحة، أن رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ اعتكف في المسجد، فسمعَهم يجهرون بالقراءة، وهو في قُبَّةٍ له، فكشف السِّترَ وقال: "ألا إنَّ كلَّكم مُناجٍ ربَّه، فلا يُؤذِينَّ بعضُكم بعضًا، ولا يرفعَنَّ بعضُكم على بعضٍ بالقراءةِ، أو قال: في الصلاةِ". رواه أبو سعيد الخدري. فعليك بالمخافتة أن تُسمع نَفسك وتحرك شَفتيك ولا تؤذي غيرك.
وإذا كان الله تعالى يخاطب المؤمنين للتأدب مع رسوله حيث قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾. 2 الحجرات. فالأحرى بنا أن نتأدب مع خالق الخلق أجمعين، كما أمرنا أن نتأدب مع نبيه، نقرأ القران يجب أن تكون قراءتنا مُتأملة مُتدبرة نَافعة مُبشرة، ولكي تكون لنا نورًا في الدنيا والآخرة.
وكذلك الحال لمن يرفع صوته أيضاً بالقراءة والتكبير والتهليل أثناء الصلاة وبعدها، نقول له "اتق الله" فأنت تشوش على من حولك، وربما يعيد من بجوارك قراءته مرات ومرات بسببك، فلا تجعل للشيطان في صلاته مسلكاً، وقد تكون آثماً. يقول المولى: ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا﴾. الإسراء 110. وقد يسنُّ للإمام اقتداءً بالنبي عليه الصلاة والسلام، بالجهر بالأذكار بعد الصلاة، لتعليم الناس وتذكيرهم، لكننا اليوم ومع من هم في مستوى عالي، من العلم والدراية، فإن رفع الصوت والمبالغة به في الاستغفار والحولقة والتهليل والتكبير وقراءة اذكار ما بعد الصلاة عموماً، قد يكون مُنفراً ومُشوشاً، وينافي مبدأ السكينة والوقار، يقول الله في محكم كتابة: ﴿اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ 205 الأعراف. فالآية واضحة ودقيقة المعنى، أي لا يكون ذلك بصوتٍ مُرتفعٍ، ولا تكن من الذين قال عنهم ابن سينا "بُلينا بقومٍ يظنّون أن الله لم يهدِ سواهم".
إن حال كثير من المساجد في الآونة الأخيرة، أمرٌ مُحزن نتيجةً لجهل كثير من مُرتاديه بأحكام وآداب وأخلاق المساجد، حيث أن البعض لا يحلو له الحديث، إلا في المسجد، عن الأمور الدنيوية، والأدهى والأمر من ذلك من يرفع صوته في المسجد لا قراءةً ولا ذكراً، بل أحاديث جانبية على هامش الحياة، والأصعب من أولئك، أصحاب النغمات الرنانة للهواتف بالأغنيات والمقاطع الموسيقية الصاخبة، أليس من الأجدر أن تجعل الهاتف في وضع الصامت، تخيل وأنت في مكتب مسؤول ما، هل ستجعل هاتفك بذلك الشكل، وكذلك مُتصفحي برامج المحمول في حرم المسجد، دون خجل أو وجل.
وختاماً إن كُنت تقرأ تعبداً لله فهو أقرب إليك من حبلِ الوريد وإن كنت تقرأ بهدف السُمعة والرياء، أسال الله أن يهدينا ويهديك، وإذا لم تتأدب مع الله جلَّ جلالهُ، فمع من ستتأدب، وأنت في بيته وتحت محرابه، كل تلك من ضمن المنظومة الأخلاقية التي يجب أن ترتكز عليها مفاهيم الأخلاق اليوم، فالمسجد المدرسة الأولى للأخلاق، والخطوة الأولى لتعلم مبادئه وخطواته، فمن تأدب مع الله جلَّ وعلا، تأدب مع عباده، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى في تدبر آياته والعمل بالحسنى.