مؤخرا، تواجه اليمن صراعا جدليا مغايرا، عواقبه الوخيمة لا تقل عن سابقيه من صراعات حملت ولا زالت الكثير من العيارات. غير أن هذا الصراع يرمي أعباءه على عاتق المرفق الصحي، ويتمدد على أجساد الأطفال، حيث يأتي اللقاح متصدر هذا الجدل.
أشيعت إشاعات بأن اللقاحات واحدة من وسائل نظرية المؤامرة للتخلص من سكان العالم، لذا فإنها تؤدي إلى العقم وإهلاك الحرث والنسل. قيل أيضا: إنها نجسة بصفتها ميكروبات واهنة مستخلصة من مخلفات حيوانية.
هنا كان يجب التصدي لمثل هذه الحملة بكل حزم. كان يجب القول: مهلا، أين الدليل؟ أين التجارب العلمية التي تثبت صحة هذا الادعاء؟ أين الإحصاءات؟ ثم أين البدائل؟
ورغم ارتفاع الأصوات المطالبة بالأدلة، غير أن تشويش المفاهيم، وتصديق الإشاعات من غير دليل كان الأسرع، إذ تسابقت وسائل إعلام مرئية ومقروءة تحذر الناس من اللقاح، تعالى صدى هذه الحملات، أصدرت فتوى بتجريمها، توقفت أو ربما منعت حملات اللقاح في بعض مناطق الجمهورية، وقف بعض الآباء حيارى، والشك يلسع أذهانهم، تباطؤوا عن تلقيح أبنائهم؛ تخوفا من مضاعفات اللقاح، ولم يتنبهوا أن الميكروبات غزت أطفالهم، وباتت تأكل أجسادهم الواهنة، الخالية من المناعة التي كان من المفترض أن يكتسبوها باللقاح، والتي كانت سوف تقيهم شر هذا الميكروب.
هنا طفل يموت، وهنا عشرات الأطفال لم يموتوا؛ لكن ماتت بعض أجزائهم، وخلدت كذاكرة حية وبقعة سوداء مظلمة في قلوب الآباء. يجثو الأب راكعا على ركبتيه، دافنا رأسه بين راحتيه. في هذه اللحظة لن ينفع الندم، ولو حشا الزجاج المتناثر رئتيه، وفاضت بحار العالم من مقلتيه.
معروف أن اللقاحات لم تعط للبشر جزافا؛ بل أشبعت بالتجارب المختبرية، حتى ثبتت فاعليتها في المختبرات، وعبر أجيال من التجربة. فمن يأتي بما يناقض ما شهدته البشرية لعقود من الزمان، وما نشاهده الآن، عليه أن يأتي بالتجارب التي تثبت مزاعمه، أو يثبت بإحصاءات وبأرقام مسجلة تتبع الجهة المختصة. وألا يبقى مجرد لغو.
نصف قرن من الزمان وعقد منذ دخل اللقاح اليمن. كمْ قبيلة أفنيت وانتهى ذكرها إلا من كونها أبيدت بسبب تلقيها اللقاح؟ دعونا لا نقول قبيلة؛ لأنه سيكون مبالغا، رغم إنه لا مبالغة في هذا طالما وأن الحديث يصب في نظرية المؤامرة، فيجب أن تكون هناك حصيلة بأرقام كبيرة، خاصة وأن اللقاح في اليمن قد مر عبر جيلين، والثالث على الأبواب.
يكفي أن نسأل عن كم أسرة قطع نسلهم بسبب لقاح؟ أو على الأقل كمْ حالة سجلت بأنها أصبحت عقيمة بسبب أخذها اللقاح؟ أو كمْ طفلا توفي جراء لقاح؟
ببساطة لم تسجل حالات، واللقاح عند دخوله البلد لم تخضع مكوناته للفحص، والطفل يتلقى اللقاح ولا تتابع الحالة التي يكون عليها هذا الطفل مستقبلا، جراء اللقاح. إذن فمن أين جيء بهذا الادعاء؟! أو ما هي الشواهد المرئية التي تثبت أن في أخذ اللقاح مضرة؟!
بل على العكس، فما شاهدناه ونشاهده حتى الآن هي آثار إيجابية لأخذ اللقاح. عالميا، استؤصل مرض الجدري بعد أن أخذ اللقاح. انتهى مرض شلل الأطفال من أغلب دول العالم، ومنها اليمن بسبب أخذ اللقاح.
بدأت عودة شلل الأطفال في اليمن في عام 2019 بعد أن أهمل اللقاح.
توفي عدد من الأطفال في اليمن خلال العام 2019 وما بعده، بعد أن أهمل اللقاح.
أصيب بعض أطفال اليمن بإعاقات دائمة بسبب انتشار الأمراض السارية نتيجة إهمال اللقاح خلال العام 2019 وما بعده.
مؤشرات الإصابة بالأمراض السارية في اليمن في تصاعد منذ أن أهمل اللقاح.
فمن القاتل إذن؟
وهل النجاة والعافية في ترك اللقاح؟
وأين الدواء من الداء؟
من المغالطات التي استخدمت لتخويف الناس من اللقاح، وصفه بأنه مجرد سموم؛ لأنه ميكروب واهن مستخلص من بقايا حيوانية...
بهذا الاجتزاء الماكر جيء لنا بمفهوم اللقاح، إذ أخذت الكلمات الأولى من ماهيته، وخلطت بما يشوبها، ثم نفخ فيها حتى تضخمت، وقدمت للمتلقي على أنها الحقيقة كاملة، ومن قلب ناصح أمين.
ناصح؟! وأمين؟!
اجتزاء الحقيقة ليس بحقيقة، ولا من الأمانة العلمية في شيء؛ بل مغالطة لتفخيخ الوعي، وتشويه الحقائق، والناقل بأسلوبه هو من يهول الأمور أو يسكنها، ومن يجيد صناعة الفزاعات ، يجيد الصيد في الماء العكر، ودون جهد يذكر، وظف اللفظ " مايكروب " بأسلوب شيطاني، فكان العود الذي أشعل المعتقد النائم والمشبوه في أذهان البعض، خاصة بعد موجة كورونا والجدل الذي أثير حول اللقاح، ولا زال الكثير متأثرا، كما أن ما يتردد على أسماعنا من عبارات مثل: هذا تلوث ميكروبي، وهذا مرض ميكروبي... يجعل من لا علم له، أو على معرفة محدودة بالمايكروبات يخلط الحابل بالنابل.
سمعنا أن هناك مايكروبات ضارة، فهل سمعنا بوجود النافعة؟ هل سمعنا أن المايكروب الضار قد يتحول لنافع، والعكس؟
اللقاحات كائنات مجهرية شبه ميتة أو واهنة، أو أجزاء منها، تخزن في أوساط تضمن سلامتها وفاعليتها ووصولها في هيئتها الصالحة للاستخدام. ما الغريب في هذا؟
هل ذكر مايكروب، مخيفا لهذا الحد؟
منذ ولادتنا، يعيش عدد لا يحصى من المايكروبات على أسطح جلودنا، وبداخل أجسادنا خاصة في الأغشية المخاطية. ولها عدد من المنافع، على سبيل المثال: تحمي أجسامنا من المايكروبات الضارة، تنتج مواد هامة يحتاجها الجسم، وتساعد في عدد من الوظائف الحيوية، وبغيابها تعتل وظائف أجسادنا، ويحدث خللا في أجهزتها، وتصيبنا الكثير من الأمراض. في غياب المايكروب؟
نعم، في غيابه.
ما المخيف في أن يكون اللقاح مايكروبا، والكثير من منتجاتنا الغذائية، والتي نستخدمها بشكل يومي في حقيقتها تحتوي أو أنتجت بمساعدة مايكروبات، كالألبان، والأجبان والخميرة... إلخ؟
إن علما كعلم اللقاح، كل يوم هو في اتساع وتطور، علماؤه تفنى أعمارهم مقابل أن ينتج لقاح واحد، من الممكن أن تتحرر من خلاله البشرية من مرض ما. تنفق ملايين الدولارات في دراسته وتجريبه، وإثبات فاعليته في المختبر، وتطبيقه على حيوانات التجربة أولا، ثم يعطى للبشر تحت حذر شديد ومراقبة دائمة، لا سيما في بادئ الأمر، ثم يأتي من يحرق كل تلك الجهود، ويلغم الوعي بدعوى أن اللقاحات سموم وأمراض؟
هل السام اللقاح؟ أم أسلوب الاجتزاء الذي يراد منه تسميم عقولنا لأغراض يخسر فيها الآباء الذين تؤخرهم عواطفهم عن الاستجابة لنداء العقل أبناءهم؟
يتبع...