لا شك بأن زلزال جنوب شرق تركيا الذي حدث في فجر السادس من شباط، فبراير الجاري لم تشهد مثله تركيا من قبل في تاريخها من حيث مساحة التأثير وقوة التدمير والتي شملت عشر ولايات في جنوب وشرق البلاد بالإضافة إلى أجزاء واسعة من سوريا المجاورة.
وكالمعتاد في ظل هذا الحدث الاستثنائي وغيره من الأحداث الطبيعية وغير الطبيعية تتحول الحكومة إلى مرمى تتلقى فيه موجات الانتقادات اللاذعة من المعارضة والخصوم الداخليين على وجه الخصوص. وهذا يدفع للتساؤل عما إذا كانت الزلازل بمعناها الشامل لِلْهَزَّاتِ الأرضية أو حتى الاقتصادية منها سبب مباشر للتغيّر الاستراتيجي في المشهد السياسي التركي.
في آب، أغسطس من عام ١٩٩٩ شهدت مدن بحر مرمرة التركية ولا سيما ازميت وإسطنبول زلزالاَ أرضي بقوة ٧.٤ على مقياس رختر، الذي خلّف وراءه خرابًا ودمارًا كبيرًا على الصعيد المادي وحزنًا عميقًا لدى المتضررين من ذلك الحدث المروع.
وفي خضم تلك الواقعة الأليمة، كانت تعيش تركيا حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي. اقتصاديًا ، عاش الاقتصاد التركي فترة انتعاش إبان حكم حزب الوطن الأم ( Ana Vatan ) بقيادة الراحل تورغوت اوزال - رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية الأسبق- في فترة الثمانينيات من القرن الماضي، اُتخذت قرارات لإعادة هيكلة الاقتصاد مما حقق نموًا وانتعاشًا ملحوظًا وارتفاعًا لمستوى دخل الفرد التركي، لكن تفاقم مشكلة التضخم المالي أثّرَ سلب على أداء الاقتصاد واستقرار العملة في السنوات اللاحقة.
أما سياسيًا ، فكانت البلاد غارقة في دوامة حكومة الإتلافات- غير الموفقة- التي عجزت عن إيجاد مخرجٍ للبلد مما هو فيه، وهنالك حدث زلزال لكن من نوع آخر، هذه المرة كانت عبارة عن أزمة مالية، أفقدت الليرة التركية ٤٠ ٪ من قيمتها أمام الدولار الأمريكي في غضون أسبوعين، مما ألقى بأثره الكارثي على الكثير من المصانع والبنوك والمحالّ التجارية التي تعرضت للإفلاس والإغلاق.
وكما هو معروف في الاقتصاد، إذا توقف الإنتاج ارتفعت نسب البطالة، وهذا ما كان بالفعل فقد وصلت نسبة البطالة لمستويات كبيرة من الارتفاع، مُجبرة الحكومة على أن ترفع مقدار الضريبة على المواطنين المثقلين بعواقب الزلزالين الأرضي والمالي. وقد ولدت إجراءات الحكومة احتقانًا لدى الشعب مما دفع الأحزاب للمطالبة بسرعة إجراء انتخابات مبكرة لتكون الأمل الأخير لتجاوز المحنة العصيبة.
في أوائل شهر تشرين الثاني، نوفمبر من عام٢٠٠٢، أقيمت الانتخابات البرلمانية، وسط تفاعل شعبي كبير لاختيار الحزب- المنقذ- للبلد المنهك بالأزمات، وهنا برز في المشهد السياسي حزب العدالة والتنمية حديث التأسيس- المنبثق من حزب الفضيلة المحافظ بزعامة السياسي المخضرم الراحل نجم الدين اربكان - وكان برئاسة رجب طيب أردوغان السياسي المثير للجدل بسبب ميوله المحافظة التي رأها خصومه آنذاك والذي حقق نجاحات مبهرة في إدارته لبلدية إسطنبول الكبرى في منتصف تسعينيات القرن الماضي.
نجاحات رجب طيب أردوغان هي من جعلت الشعب التركي يرجح كفّة حزب العدالة والتنمية لقيادة البلاد، الذي يعطي شعورا بالثقة لدى الناخب في الحزب.
وقد قُدر لهذا الحزب، بأن بدأت عجلة الاقتصاد التركي في التحرك نحو الإنتاجية، وانخفاض نسبة التضخم، وزيادة حجم الاستثمارات الأجنبية في البلد، والأهم من ذلك التوجه نحو الاكتفاء الذاتي في مختلف القطاعات والمجالات.
وخلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية التي اتسم بالكفاءة لم تشهد البلد كارثة طبيعية أو مالية، إلى أن واجه الحزب تحديا خطيرا تمثل في محاولة الانقلاب العسكري الفاشل عليه في صيف عام ٢٠١٦ الذي تسبب في حدوث ارتدادات اقتصادية إد بدأت الليرة التركية تفقدا كثيرًا من قيمتها أمام العملات الأجنبية الرئيسية تدريجيًا إلى أن وصلت إلى مستويات قياسية في سنة٢٠٢٢ إلى أن أصبح هبوط العملة التركية الأحدث الأكثر تأثيرًا في اقتصاد البلاد.
هذا التحدي دفع حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات والتي استهدف القضاء على ما يراه الرئيس الخطر الأبرز على الاقتصاد والليرة والمتمثل بارتفاع سعر الفائدة والذي أبقى الاقتصاد التركي رهن مضاربات المضاربين الدوليين، ولأنه يرى أن خفض سعر الفائدة سيعزز من اقتصاد بلاده عبر مضاعفة الإنتاج والاستثمار الحقيقي في الإنتاج وليس عبر الأموال الساخنة.
لا شك في أن هذه الكارثة قد تكون تحدي جدي هذه المرة لحزب العدالة والتنمية لبرهنة قدراته على احتواء الأزمة وتداعياتها، والإسراع في تلافي مخلفات الزلزال الكبير، خصوصًا وان بعض قيادات المعارضة قاموا باستغلال الوضع لإظهار ضعف الحكومة في عمليات إنقاذ الناس وانتشال العالقين تحت الأنقاض.
وهذا لا يتفق مع الحقائق على الأرض، فالحكومة تواجه أسوأ الكوارث بكل إمكانات الدولة؛ مُتكئة على خبرة تراكمية وإنجازات مشرفة لمسها الشعب التركي خلال السنوات الماضية والتي شهدت كوارث عديدة كالفيضانات التي ضربت المنطقة الشمالية والحرائق التي تعرضت لها منطقة بحر إيجة وأنطاليا، وقبل ذلك زلزال إزمير والازيغ، حيث عالجت الحكومة آثار هذه الكوارث بنجاح كبير وأوفت بالتزاماتها اتجاه المتضررين من هذه الكوارث بشكل كامل.
ولا شك أيضًا أن زلزال الجنوب المدمر سيخلق تحديات هائلة أمام حكومة الرئيس أردوغان، وما من مؤشر على عجز هذه الحكومة رغم تشكيك المعارضة لدوافع انتخابية.
وفي الحقيقة، فإن ما تواجهه تركيا اليوم يدفع المتابع للشأن التركي إلى إجراء مقارنة لهذا الحدث مع سابقيه من الأحداث سواء الطبيعية أو غير الطبيعية؛ وبالأخص ما حدث في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ليبرز سؤالا مهما عما إذا كانت هذه الزلازل هي حَقًّا من يكتب دائمًا انطلاقة جديدة لتركيا نحو مستقبل أفضل؟
* باحث ماستر في العلاقات الدولية