لا يكاد شاعر ارتبط بالمكان وتوحَّد معه، كما ارتبط عبدالعزيز المقالح بصنعاء وتوحَّد معها. وكأنَّ هذا الارتباط كان حبلاً سُرّيّاً وصل بينهما منذ ما قبل لحظة الولادة، واستمر موصولاً خلال حلّه فيها وترحاله عنها:
"حين جئتُ الى الأرض
كانت معي ، في قماطي
وكنتُ أرى في حليب الصباح
بياض مآذنها.. والقباب
وحين هجرتُ البلاد
أبتعدتُ الى قارورة المسك
كانت معي".
لقد اختار المقالح صنعاء مصيراً، لا إقامة.. هوية، لا منامة. وصار كلٌّ منهما وجهاً للآخر، حتى لا يستطيع أحد الفصل بينهما، فإذا قيل صنعاء وردَ المقالح إلى الخاطر، والعكس صحيح.
نعم، كان حارسها الأمين وعاشقها الأبدي، بل كان بابها الثامن عن حق واستحقاق وحقيقة، بل إنه -لعمري- أكثر أبوابها انفتاحاً واتساعاً ورحابة.
والحق أزعم، أنه قلّما رُزق شعب أو وطن أو مجتمع بمثقف طليعي، دائب الجهد ودائم العطاء، كما رُزق اليمن واليمنيون بالمقالح، ولا تجد مثقفاً - أو حتى مجرد عارف عابر باليمن - يتحدث أو يكتب عن هذي البلاد من دون أن يذكر بشيء من الامتنان أو الإعجاب المقالح كرمز عصري لليمن واليمنيين.
ترى كم هم الأدباء والكُتّاب والباحثون والمثقفون الذين أطلقهم المقالح من شرنقة التكوين إلى فضاء التحليق؟!!
كم هم الطُلاّب الذين تتلمذوا على يديه؟
كم هم المبدعون الذين مرُّوا على جسره؟
من ذا الذي قرأ كتاب صنعاء من دون أن يهتدي إلى صفحة المقالح؟
أو تجوّل بين ردهات اليمن من دون أن يعبر في زقاقه؟
وهكذا كان وظل أستاذاً رصيناً وأباً حنوناً وراعياً أميناً لفراشات العلم والأدب والفن وسائر صنوف الإبداع، يقيها النار ورواغ السراب وأوجاع الخراب.
وقد كان جيلي من أكثر الأجيال حظاً به، وحظوة لديه، ونعترف له بأن له يداً حريرية وراء عدد غير قليل منا، ممن يقف المشهد الثقافي اليمني اليوم - ومنذ زمن غير قريب - على أسمائهم وإنتاجهم.
سبقَ لي -قبل أكثر من عقدين من الزمان- أن أقترحتُ على أهل القرار في هذا البلد تشييد نصب تذكاري للمقالح عند أحد مداخل صنعاء، أو في احدى ساحاتها، كمثال عديد من النصب التذكارية لشعراء وأدباء وفلاسفة ومفكرين وعلماء وفنانين في عديد بلاد العرب والعالم كله.
وقد أعدتُ كلامي هذا مرةً ثانية، وها أنا أُكرّره مرةً أخرى، داعياً إلى تكريم وتخليد ذكرى هذا الرجل الكبير الكثير، كمثل من كرّمتهم شعوبهم وخلدت ذكراهم أوطانهم؛ لأنهم استحقوا هذا التكريم وذلك التخليد عن جدارة.
فهل نرى تمثالاً للمقالح ينتصب قريباً في صنعاء على الأقل؟
* نقلًا عن موقع بلقيس