- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلمٍ. وفي رواية البخاري: إِذا نَظَر أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عليهِ في المالِ وَالخَلْقِ فلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ.
1/ هذا الحديث الشريف كما قَالَ عنه الإمام اِبْن جَرِير وَغَيْره : جَامِع لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْخَيْر....،
وﻗﺎﻝ عنه ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻋﺒﺪﺍﻟﺮﺣﻤﻦ ﺍﻟﺴﻌﺪﻱ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ "ﺑﻬﺠﺔ ﻗﻠﻮﺏ الأﺑﺮﺍﺭ ": ﻳﺎ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﻭﺻﻴﺔ ﻧﺎﻓﻌﺔ، ﻭﻛﻠﻤﺔ ﺷﺎﻓﻴﺔ ﻭﺍﻓﻴﺔ.
2/ يرسم لنا نبينا في هذه الوصية العظيمة طريق السعادة وراحة البال، والتخلص من الهموم والغموم والقلق، والنجاة في الدنيا والآخرة، بتقديم درس تربوي وعملي، وهو أن ينظر الإنسان في أمور الدنيا إلى من هو أقل منه رزقًا، وصحةً ومالًا وجاهًا ووظيفة ومسكنا ومركبا وزوجة وولدا؛ حتى يستشعر قدر النعم الجليلة عليه والتي حرمها الكثيرون ؛ ما سيدعوه لواجب شكرها وحفظها، ولا ينظر إلى من هو فوقه من أمور الدنيا؛ منعا من استصغار نعم الله عليه واحتقارها، وأما في أمور الآخرة فليقارن نفسه بمن هو أفضل منه ليستشعر التقصير ويطلب الاقتداء بهم والمسابقة والمنافسة لهم فيها، بتقديم النفس ؛ كون ذلك أنفس مجال وأكرم عاقبة (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}.
3/ والحديث توجيه نبوي كريم في التحذير من آفة (المقارنات الظالمة) ، وذلك بالدعوة إلى :(الزهد وقصر الأمل في الدنيا) والنظر إليها بعين الزوال، ولذلك وصفت ب(المتاع) لقلتها وزوالها واضمحلالها ولابد.
وإلى (التواضع) بعدم طلب العلو والرفعة على الناس، وإلى (القناعة) وهي امتلاء القلب بالرضا بما قسم الله والبعد عن الجزع والتسخط والاعتراض على الأقدار، وعن التطلع عما في أيدي الآخرين،
والرضا: خصلة إيمانية كريمة تجلب الهدوء والتوازن النفسي والقدرة على مكابدة الحياة وحسن العيش بها.
٤) وفيه التحذير من آفات (الغيرة والحسد)، واللتان تنشآن عن ضعف الإيمان بالقضاء والقدر والجهل بكمال أسماء الله وصفاته، وعن حب الرئاسة والجاه، وعن العجب والكبر بتوهم فضل الإنسان على الآخرين وانتقاصه لهم، كما فعل إبليس حين أبى السجود لنبي الله آدم عليه السلام (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ)، وكما هو الدافع في قتل قابيل لأخيه هابيل ( إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ) وكفر أهل الكتاب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم (حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم ) ونحوهم كفر قريش ( وَقَالُوا۟ لَوۡلَا نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡآن عَلَىٰ رَجُلࣲ مِّنَ ٱلۡقَرۡیَتَیۡنِ عظيم * أَهُمۡ یَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بيۡنَهُم معيشتهمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضࣲ دَرَجَـٰتࣲ ليتخذ بَعۡضُهُم بَعۡضࣰا سُخۡرِیࣰّاۗ ).
- فالحسد من أشنع الأخلاق الذميمة حيث يمزق المجتمع ويفرقه ويزرع فيه الشحناء والضغينة وتتبعه العداوة والجريمة.
4/ والتحذير من عقد (المقارنات الظالمة )؛ كونها من عادة أغلب الناس في كل مجالات الحياة.. على مستوى الأفراد والمجموعات ابتداء من الأسرة والأولاد والأقارب، ومرورا بالمدرسة والشارع والأصحاب والمؤسسات والشركات وبين أهل العلوم والفنون والرياضة.
- لا شك أن بعض هذه المقارنات شريفة، وهي التي تخلو من قصد التنقص الممنوع وتحرص على طلب الكمال المشروع في أساليبها ومقاصدها،
ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا
كنقص القادرين على التمامِ
ومن ذلك أسئلة الصحابة لنبيهم صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟
واي الذنوب أعظم؟
وذلك أنه يشرع عند التزاحم والتعارض جلب الأعلى مصلحة ودفع الأعظم مفسدة من باب فقه الموازنات والأولويات كما هو معروف.
5 / وكثيرا ما تأتي هذه المقارنات خاطئة كنتيجة لمقدمات خاطئة، فتكون (عبثية) بل (غير منطقية ولا منصفة) ؛ فإنه - باعتبار الطبيعة البشرية - لدى الناس كلهم مميزات وعيوب مما قل منها أو كثر أو خفي أو ظهر نصبا مفروضا، إلا أنه جرت عادة الناس إخفاء جوانب النقص وإبراز - بل ربما - ادعاء جوانب الكمال إما طلبا للستر أو للتفاخر.
- كما أن أحوال الناس وظروفهم مختلفة في الواقع لاختلاف مواهبهم وقدراتهم وبيئتهم تبعا لأقدار الله فيهم، فكان من الطبيعي اختلاف أحوالهم في الغنى والفقر والشرف والجمال وغيرها وهي (سنة إلهية) (وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ في ٱلرِّزْقِ ۚ)، ونوع من (الابتلاء والفتنة) :(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) (وجعلنا بعضكم لبعضٍ فتنة أتصبرون)، فالصحيح فتنة للمريض والقوي فتنة للضعيف والغنى فتنة الفقير، وهكذا، كما أنه أيضا لقصد (التكامل) في المجتمع : ( نحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم معِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا) أي أنهم مسخرون لنفع بعضهم بعضا، والعاقل الحكيم هو الذي يعتقد أنه لا راد لقضاء الله ويصر ويحتسب رجاء ما هو أبقى وأنفع، إن الحق سبحانه وتعالى يعطي بلا حساب لحكمة، ويمنع لحكمة وكل شيء عنده بمقدار (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
6 /وفي مجالنا الاجتماعي فكثيرا ما تكون هذه المقارنات الظالمة ( هدامة)؛ لصاحبها؛ حيث تؤثر على الصحة النفسية والعقلية في نفوس أصحابها وفي المجتمع بسبب إذكاء نار الغيرة المذمومة والحسد والحقد والكراهية والتفريق والعداوة على كافة المستويات، وأولها بالتخبيب بين الزوجين بالتحريش وإفساد العلاقة بينهما (ليسَ منَّا من خبَّبَ امرأةً علَى زوجِها..) صحيح أبي داود، وللتخبيب أساليبه الظاهرة والخفية في (المجتمع)، ومنه التخبيب الإلكتروني، وكما يتفنن (الإعلام) في عرض فتنة النساء، حيث يضعف استشعار جمال الزوجة حين المقارنة الظالمة ، وتجيء( الأفلام الرومانسية) الخيالية في سيناريوهاتها لتدخل الزوجين في حالات الكراهية والطلاق كما ذكر الإعلام نفسه عن وقوع هذه الظاهرة مؤخرا بصورة مقلقة.
- والجدير التنبيه عليه أن ما يفعله بعض الآباء والمدراء في عقد المقارنة بين الأبناء أو الطلبة والموظفين وإن كان لقصد دفعهم للحماس والتفوق، إلا أنه قد يترتب عليه مردود سلبي عكسي لما فيه من جرح مشاعرهم أو إفهام تنقصهم عن غير قصد.
7/ من الخطأ الجسيم والخلق الذميم أن نجعل أنفسنا ندا لبعضنا لغير موجب أو الاعتقاد بأنه يجب علينا أن تكون أفضل من الآخرين ولا بد ، أو توهم أن نجاحنا يستلزم فشل غيرنا !!، ويكفي للنجاح أن نبذل الجهد في العمل على تطوير ذاتنا ومهاراتنا مستعينين بربنا ؛ وأن تكون منتجين وفاعلين ومتميزين فيما نحسنه ونجيده، وبدلاً من إحراق أنفسنا في منافسات ومقارنات عبثية وغير متكافئة، فما أجمل وأسهل أن
نتقبل أنفسنا كما هي، ونتعايش معها بثقة وسلام، ونعمل على أن يكون يومنا خيرا من أمسنا، وغدنا خيرا من يومنا، وأن نوفر الهم والهمة لتتشبه بالناجحين ونقتدي بالصالحين
إِذا أَعْجَبَتْكَ خِصالُ امْرِئٍ
فَكُنْهُ يَكُنْ مِنْكَ مَا يُعْجِبُكْ
فَليسَ عَلى المَجْدِ وَالمَكْرُماتِ
حِجابٌ إِذا جِئْتَهُ يَحْجُبُك
7/وأخيرا.. فعلى العاقل أن يدرك أن المقارنة الشرعية والنافعة هي التي تكون مع النفس ، بأن يقارن الإنسان نفسه بنفسه بإصلاحها وتزكيتها وتغيير ما قد يكو من الجوانب السلبية فيها، كالعجز والكسل والطمع والحسد ومحاولة تغيير الظروف السلبية الممكن تغييرها كالصحبة والبيئة وأن يستغل الفرص التي تتاح لمواجهة العقبات التي تحول دون ما نؤمله من النجاح، وإن كان للنجاح من عدو حقيقي فهو الكسل بلا منازع ، وكما قيل: «من دام كسله، خاب أمله»، ولذلك كان نبينا عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من العجز والكسل كما في البخاري عن أنس، وقد قيل في الفرق بينهما ، أن الكسل ترك الشيء مع القدرة عليه، والعجز ترك الشيء مع عدم القدرة عليه.
الجِدُّ بالجِدِّ والحِرْمَان في الكَسَلِ
فانصبْ تُصِبْ عن قريبٍ غايةَ الأملِ.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نعمتك وجميع سخطك يا رب العالمين.
والله الموفق والمستعان.