من المفترض أن تحيل عبارة "الهوية اليمنية" إلى العنصر الجامع الموحِّد، عنصر التفريد لليمني بما هو يمني من شرق البلاد إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها، بالمقارنة مع غير اليمني.
لكن الملابس والأزياء ليست هذا العنصر.
لدينا في اليمن تشكيلة واسعة ومعقدة من الأزياء والأنماط تخفي تحتها حساسيات وأذواق وخبرات ورمزيات ودلالات وأغراض لا تعد ولا تحصى، ومستمدة من أصول تاريخية واجتماعية مختلفة.
وهي كلها يمنية بنفس الدرجة وبنفس الأهمية.
نقول "يمنية" بمعنى أنها ملبوسة من يمنيين لا بمعنى أنها يمنية الأصل والمنشأ، ولا بمعنى أن كل لون من هذه الملبوسات يتسم بالعمومية والانتشار في أرجاء اليمن.
وأنا هنا لا أعيب على اليمنيين تنوع ملبوسهم، وإنما أردت التنبيه إلى أن الأزياء المعروضة هذه الأيام لا تدل على "هوية" بل "هويات".
وفي مرحلة كهذه، نحتاج إلى ما يذكرنا بما نشترك فيه كيمنيبن لا ما يتميز به بعضنا عن بعض.
نحتاج إلى ما يذكرنا بعناصر الربط لا عناصر الفصل.
اللباس -هنا والآن- ليس الموضوع المناسب للتأكيد على ما تسمونها بـ الهوية اليمنية، إلا إذا استطعنا استخلاص وتعميم رداء وطني توفيقي من كل هذا الخليط العجيب المدهش من التصاميم والتركيبات والألوان.
هذا غير ممكن، وغير مستحب وغير ضروري.
من هنا يكتسب الرداء الأوربي الغربي، ممثلاً بالبنطلون والقميص وربطة العنق، قيمة وطنية توحيدية كرداء رسمي للدولة في بلد جمهوري مثل اليمن.
لأنه رداء محايد،
لا يرمز إلى تاريخ فريق يمني دون فريق ولا منطقة دون أخرى ولا فئة دون أخرى ولا فرقة دينية دون أخرى.
مظهر نظامي يؤدي أغراضه العملية دون أن يثير مشاعر غبن واستبعاد وتظلم من جانب أية خصوصيات أو فرديات محلية وثقافية جزئية.
أظن أن مقام الرداء الرسمي للدولة بالنسبة إلى تنوع وتعدد الملبوسات الفردية، يشبه مقام النشيد الوطني بالنسبة إلى تنوع وتعدد المسموع من النغم والألحان.
على أن تُترَك للأفراد في حياتهم الشخصية اليومية ارتداء ما طاب لهم من الثياب، وعبادة ما طاب لهم من المعبودات، والاستماع إلى ما يحلو لهم من الألحان والأنغام.
لا ضير أن نحتفل ونبارك كل زي وكل رداء من الأزياء والأردية التي سجلت حضورها في مناطق مختلفة من اليمن، وأصبح لها عن طريق الاعتياد قيمة الموروث التاريخي، فهي في مجموعها تعكس جانب من "هوية اليمني"، أما إذا أخذناها فُرادى إلى حقل السياسة الموبوء، فإنها سرعان ما تصبح علامات فصل وتمييز وتجزئ.
ما يجب أن نتذكره دائماً أن "الهويات"، على النطاق الفردي أو الاجتماعي والوطني، ليست معطيات طبيعية قَبْلِية ثابتة وأزلية،
بقدر ما هي صيرورات تاريخية متغيرة،
خلق مستمر ضمن قيود وإكراهات المكان وضمن المدى التي تسمح به الطبيعة.
"الهويات" الواعية لنفسها هي بناء وتركيب، إضافة وحذف، تأليف وتوليف، عبر متوالية حيوية من الفعل والانفعال، التأثير والتأثر، الاقتباس والتأويل.