سبق وتحدثت من سابق، عن ماهية دور طارق عفاش، قلت فيه أن الرجل أشبه بسيارة إسعاف، يُستدعى؛ أو سيُستدعى في الحالات الطارئة التي يقررها الصانع، وفي ذات السياق قد يكون شيئًا لم يضَح للناس، إلا بعد فترة سياسية معينة، فالسياسة لا تقتضي خطة واضحة في كل شيء، بل لابد من ترك هوامش عريضة، أي عدم وجود خطة آنية، بحيث لا نستبين أمر الرجل إلا في الإبَّان، ليس لأن هناك خطة معدة بالضرورة، بل لأن ليس هناك خطة أصالةً، وعدم وجود خطة في السياسة هي خطة، ستتبلور يومًا ما في قالبها الظاهر، وفي باطنها المتخفي .
ما يلاحظ في لغة الرجل، العقلانية القيادية، والعاطفة الوطنية، وكأنما أراد أن يفصح عن لسان حال الشعب، وعن رغبة جميع الفرقاء، وعن ضمير النصر الميت. فهناك اعتراف بالشرعية، وهناك دعوة لفرقاء الوطن لرأب الصدع، وهناك دغدغة عواطف، ومنطق جميل، فماذا يعني هذا؟
اعتقد أن ثمَّة خطة تكشفت أو تكاد عن هذا الخطاب، متسقة مع أسلوب الحرب في اليمن، والضغط الأميركي لإنهاء الحرب، والرغبة في القضاء على حزب الإصلاح، والمعارك الضارية في مأرب، أُجمِل ذلك في النقاط التالية :
أولًا : الغاية في إظهار طارق عفاش على هذا النحو العقلاني، والأخلاقي، والإنساني، تعني توليه زمام الأمور في قابل الأيام، رفقة المجلس الانتقالي، إذ تجاوب الأخير مع هذه الدعوة التصالحية، ورضي بها .
ثانيًا : دخول طارق عفاش في إطار الشرعية، يشف عن إن الخطة المزمع تحقيقها لن تتم إلا بالتحالف بهذا الكيان الديكوري المسمى بالشرعية، لتبرير الخطة وتفعيلها في الأيام والشهور القادمة، فالشرعية أصبحت أشبه بقصة تلكم الضبع، فقد كان الثعلب يأكل النعاج، ويودع العظام في مؤخرتها، وحين أتى الراعي، برأ الثعلب نفسه من التهمة، وقال: انظر إلى العظام، فهي من تأكل نعاجكم ولست أنا . يبدو أن حال هذه الشرعية كحال تلكم الضبع، تتستر على الثعالب في الداخل والخارج، بقصدٍ منها، أو بأمرٍ من خارجها .
ثالثًا : القضاء على حزب الإصلاح، أو استنزافه، وتحييد الرؤوس الحيَّة القادرة، وكذا استنزاف المليشيا، وقصقصة أجنحتها في معارك عديدة، على مدى سبع سنوات، كانت خطة أميركية بامتياز، أكثر منها خطة سعودية إماراتية، فالأول آمر، والدولتان مجرد منفذ. وفي ظني أن الخطة الأمريكية وصلت إلى نهايتها، ولم يتبقَ أمامها إلا سقوط مأرب، ومن ثم سيتم صناعة السلام الهش، بغية إخراج السعودية من الحرب، تاركة وراءها معركة لم تنتهِ بعد، وتقسيم جغرافي؛ أو هكذا يبدو للناس، جنوبًا بقيادة الانتقالي، وشمالاً بقيادة المليشيا .
رابعًا : ستتوقف المليشيا في مأرب -فيما لو اسقطتها- حتى تعقد اتفاقية مع التحالف، مفادها إنهاء الحرب، وإيقاف الاعتداءات المتبادلة، وهي تظن في إنجازها هذا نصران، الأول: إسقاط مأرب، الثاني: توقف قصف الطيران .
خامسًا : في فترة الاتفاقية التي تسعى لها السعودية وإيران، ستُظهِر المليشيا الحوثية انسجامًا خادعًا مع الانتقالي، كما لو إنها موافقة ضمنيًا على تقاسم الكعكة اليمنية، الجنوب، مقابل الشمال، وسيظهر لها الانتقالي ذات الخداع، وفي عقل كل واحدٍ منهم رغبة التخلص من الآخر .
سادسًا : بمجرد إبرام الاتفاق السعودي الإيراني، ستتوقف الهجمات من قبل الطيران على الحوثيين، وستتوقف الهجمات على السعودية، وسنبدأ فصلًا جديدًا. حربٌ داخلية طرفيها المليشيا، وطارق عفاش والمجلس الانتقالي، وكل حُرٍّ سيضطر إلى مناصرة الأخيرين، رغبة التخلص من الحوثية على أي حال .
سابعًا : ستحدث هذه الحرب الداخلية، كما لو أننا بدأنا الحرب، وكما لو أن السبع السنوات التي مضت كانت إعدادًا لها، وإن كانت السبع السنوات أتمت غرضها، وحققت الرغبة الأمريكية، في الحفاظ على المليشيا شريطة الضعف، واستنزاف أو التخلص من حزب الإصلاح .
ثامنًا : ستعمل السعودية والإمارات كما تعمل إيران هذه المرة، فلن يظهرون في الصورة، ولن يقصفون بالطائرات، وإنما خلقوا مليشيا موازية، تخدم أجندتهم، وتحقق مبتغياتهم، مع دعم سخي من تحت الطاولة، وهذا عين ما تفعله إيران مع المليشيا الحوثية .
السؤال: لماذا يُراد إسقاط مأرب اليوم، طالما طارق عفاش والانتقالي وجميع الأحرار في الوطن سينضمون إلى هذه المعركة ضد مليشيا الحوثي؟
أولًا: اعتقاد أميركي وإقليمي بوجود حزب الاصلاح في مأرب، والخطة تقتضي القضاء عليه، أو استنزافه على أقل تقدير .
ثانيًا : إعطاء انتصارًا وهميًا للحوثيين بسقوط مأرب، واشباع غرورهم، وغرور الإيرانيين من ورائهم، فمحافظة مأرب أصبحت بالنسبة لهم معركة مصيرية لا محيد عنها .
ثالثًا: تنفيذ الخطة السالفة الذكر في نقاطها الثمانية، تقتضي سقوط مأرب، فمن غير الممكن اليوم الإعلان عن اتفاق سعودي إيراني بدون حدوث ذلك، ولإبداء حسن النية أرادت السعودية إعطاء بعض التسهيلات العسكرية، وتقديم مأرب كهدية .
أنا هنا لن أجادل عن هذا التحليل، فقد يحدث وقد لا يحدث، ولكني أود أن أُجادل عن فكرة سقوط مأرب، فإذا ما بقيت صامدة، ظافرة، وطال ذلك الصمود وذلك الظفر، سيدفع الخطة الأميركية الراغبة في القضاء على حزب الإصلاح، والخطة الإيرانية الراغبة بالظفر بمأرب، لإبرام الاتفاقية مع السعودية، ظنًا من الأخيرة وميليشياتها أن توقف الطيران سيؤدي إلى سقوط مأرب على عجل، وهذا الذي لن يحدث، لأن القوى ستتعاضد فيما بينها بناءً على ما أسلفنا، وبأمرٍ من التحالف، وبدعمٍ منه، وتحت غطاء الشرعية المعترف بها دوليًا .