ما إن وصلت طالبان إلى كابل مجددا حتى بدأ الغرب وإعلامه بالتحذير من مغبة عودتها وأنها ستشجع على التطرف وستستضيف عناصر إرهابية
وستشكل خطرا على المبادئ الإنسانية وقيم أوروبا وقيم العالم الحر, ووصف الوضع في أفغانستان بـ الكارثي والمأساوي، وذرف بعض مسؤوليهم دموع التماسيح على آلاف العالقين من عملائهم في مطار كابل.
وهذا الموقف الغربي ليس مفاجئا أو مستغربا، فقد مُنيت أمريكا وتحالفها بهزيمة قاسية أنفقوا خلالها مليارات فلكية بلا جدوى وفقدوا الكثير من معداتهم العسكرية الثمينة، وختموا احتلالهم بالهروب الفوضوي بلا استعداد أو تخطيط، ولا يملكون الآن سوى الإتهامات والهجوم الإعلامي سعيا للتغطية على فشلهم.
وهذه الهزيمة نزلت بردا وسلاما على باكستان المجاورة التي تتهمها الدول الغربية بدعم طالبان منذ نشأتها إلى الآن، وبغض النظر عن ذلك فالحقيقة التي لا يمكن إنكارها هو أن باكستان أكبر مستفيد من عودة طالبان، فبها أضافت عنصر قوة جديد إليها لاسيما بأن مدرسة طالبان الفكرية هي نفسها المتواجدة في باكستان، والمناطق الحدودية متداخلة ومتشابهة في كثير من العادات.
ناهيك أن الهند ستفقد ما حققته في أفغانستان خلال فترة تواجد الإحتلال الأمريكي، ولن تجازف بعد الآن بخوض مغامرة عسكرية مع باكستان لعلمها أنها لن تكون لوحدها.
إلا أن الأمر مختلف مع الصين حيث قالت بعد يوم من دخول طالبان إلى كابول إنها مستعدة لتعميق العلاقات «الودية والتعاونية» مع أفغانستان، وبداية الشهر الحالي إستضاف وزير خارجيتها وفدا من طالبان في بكين، وعلى ما يبدوا ستكون العلاقة بين الطرفين إقتصادية أكثر من أي جانب آخر، ستسعى الصين إلى إنشاء بنية تحتية قوية في أفغانستان في إطار مشروعها الضخم «طريق الحرير الجديد» وستعمل شركاتها على استخراج ثروات الأفغان التي ما زالت في باطن الأرض.
أما الدول الأخرى; فكثير منها لم يبادر في مهاجمة الحركة، ويمكن إيراد موقفها على النحو الآتي:
*إيران*
رحبت إيران بإنتصار طالبان ولم تغلق سفارتها في كابل
وأشاد الحرس الثوري بما حققته الحركة وقال الرئيس الإيراني بأن أمريكا تلقت هزيمة عسكرية كبيرة، وهناك حفاوة كبيرة في الإعلام الإيراني وتوابعه تؤكد سردية مفادها أن ما حدث هو نصر للإسلام على أمريكا(العدو الإعلامي لإيران) وعليها أخذ العبرة وسحب قواتها من العراق وغيره.
وقبل ذلك أفادت تقارير عدة من بينها تقرير لموقع(ميدل إيست آي) بأن إيران دعمت طالبان في حربها ضد الإحتلال الأمريكي في السنين الماضية مقابل عدم المساس بأقلية الهزارة الشيعية، ولا تستطيع الآن إبداء أي عداوة لعلمها أن أتباعها في الداخل الأفغاني لن يصمدوا طويلا إذا تحركت طالبان ضدهم حسب التقرير.
وبعكس التأييد الرسمي، وصف الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد طالبان بأنها «جماعة متطرفة وعنيفة وغير إنسانية» وقامت مظاهرات في الداخل الإيراني تهاجم طالبان وحذرت مرجعيات شيعية عدة في قم والنجف من عودتها واستنفرت مليشيات شيعية قواتها في العراق وأعلنت استعدادها للذهاب إلى أفغانستان، وكانت إيران نفسها من خلال فيلق القدس أنشئت ودعمت العديد من الجماعات المسلحة داخل أفغانستان مثل ميليشيات «فدائي بابا مزاري»، ومقاتلي حزب «الوحدات» الذين كانوا جزءا من قوات مكافحة الإرهاب الأفغانية الرسمية، فضلا عن نشاطها الإستخباراتي من خلال قنصلياتها في عدة مدن، ومشاريعها الكثيرة، وفعالياتها الثقافية والدينية طوال العام.
لذا يمكن القول بأن إيران في الوقت الحالي تمارس عقيدة «التقية» فصعود طالبان تعد ضربة قاصمة للنظام الإيراني الذي يسعى لتصدير ثروته إلى مناطق كثيرة من ضمنها أفغانستان، غير أن مشروعه سيتعثر الآن ولن يستطيع ممارسة أي نفوذ هناك، وليس هذا فحسب بل إن الشعارات الإيرانية ك «الموت لأمريكا» وكذا حرصها على الظهور بمظهر الحريص على استقلال الأمة وخروج أمريكا من البلاد الإسلامية ستذهب في مهب الريح مع وجود حركة إسلامية قوية هزمت أمريكا بالواقع الحقيقيي وليس الإفتراضي.
*روسيا*
لم تقم روسيا بأي إجراء على الأرض بعد سيطرة طالبان بل أعلنت فورا بدء الإتصالات مع قيادة الحركة والتقى سفيرها بعدد منهم في العاصمة كابل، وصرح وزير خارجيتها بأن الأمور هادئة والأوضاع مستقرة، وأكدت على لسان أكثر من مسؤول أنها لن تتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد.
وبعيدا عن هذه التصريحات السلمية، أجرت القوات الروسية تدريبات مشتركة مع قوات من طاجيكستان وأوزبكستان على حدودهما مع أفغانستان، وأفاد الرئيس الروسي أن هناك احتمالات من تسلل «المتطرفين» إلى تلك الدول ومن ثم إلى بلاده وأكد أن بلاده ستتدخل فورا إذا تعرضت تلك الدول لتهديد ما من أفغانستان.
وروسيا كما إيران مضطرة للتودد لحركة طالبان فهي لا تتجرأ على التدخل العسكري بعد هزيمتها هناك قبل حوالي 40 عاما، لكنها تعلم يقينا بأن وجود حركة طالبان سيعوق بينها وبين سياساتها الإستعمارية في آسيا الوسطى وسيعرقل استمرار سيطرتها على قرارات تلك الدول ونهب ثرواتها.
فغالية سكان تلك المناطق الشاسعة مسلمون أحتلتهم روسيا منذ القرن الثامن عشر، ومنذ ذلك الحين دارات حروب عدة بينهم وبين الروس سعيا منهم لاسترداد بلادهم وحكم أرضهم بأنفسهم، آخرها كان في طاجيكستان في تسعينيات القرن الماضي تأثرا بما جرى في أفغانستان، بل انتقلت عدوى أفغانستان الى الداخل الروسي نفسه حيث قامت ثورة الشيشان في نفس الفترة، ومع عودة طالبان من المرجح أن تنبعث الروح الإسلامية وتبدأ مقاومة الهيمنة الروسية من جديد في تلك المناطق.
*تركيا*
وهذه هي الدولة الوحيدة من بين الدول الأخرى التي تسعى لإيجاد دور لم يسبق لها تبوءه في أفغانستان من قبل، وذلك من خلال سعيها لإدارة مطار كابل.
وإذا حصل وتوافقت تركيا مع طالبان فهذا يعني أنها ستقطع الطريق أمام الدول الأخرى لزعزعة وإثارة القلاقل داخل أفغانستان، وفي الوقت نفسه ستتصدر مشهد إعادة الإعمار وتنمية البلد مع الصين.
وبالمجمل، أغلب الدول المحيطة بأفغانستان وكذلك الغرب ليسوا سعداء برجوع طالبان مجددا، وسيسعون لعرقلتها وإحباط مشروعها بكل السبل المتاحة، وإن أظهروا خلاف ذلك.
وقطعا لن تبقى أفغانستان الجديدة حبيسة حدودها وإنما ستسعى لاستغلال مكانتها كدولة هزمت القوة العظمى الأولى في العالم لنسج علاقات ودية وقوية مع دول مختلفة، مع عدم السماح لأي طرف بالتدخل في شؤونها الداخلية، وتبقى مسألة نقل التجربة للآخرين مسألة ستتضح بمرور الزمن، علما بأن دول كبرى قامت في أفغانستان في الحقب الماضية مثل الدولة الغزنوية والدولة الدرانية، وليس مستبعدا أن يعيد التاريخ نفسه.