لقد عاش والدي في عصر فقدَ فيه أغلب الرجال إيمانهم للسبب نفسه الذي امتلك به هذا الإيمان، اختار أغلب الناس الدنيا بديلًا عن الله في حين أنه لم يعرف كيف يتمتّع بالدنيا اساسًا..لم ينظر ابدًا لحشود الناس وأهوائهم بل كان يعرف الفضاءات الكبيرة الكائنة بجواره ايضًا لذلك لم يتخلَّ ابدًا عن إيمانه ولم يقبل بعقيدة مشوهة ولم ينظر بعين الاعتبار لأي من أشكال الحياة.. كان فصيحًا عارفًا مؤمنًا وحين وضع الله إيمانه على المِحك أرى الله من نفسه خيرا..ولم يتبقَّ منه إلا بندقيته التي دافع بها عن ما يؤمن به..وبضع ما سطّر قلمه من أفكاره التي لن تموت.. لم يتميّز والدي بمناصبه التي تقلدها ولا شهاداته التي حصل عليها..بل كان باعثه الحيّ الذي من داخله هو ما يميّزه..صدقُه ومروءته، كان رجلًا عزيزًا حُرًا يقول ما يفعل ويصدّق بالقول العمل. لم تنحرف بوصلته ولم يبدّل ولم يفقد إيمانه بقضيته ولو حتى لساعة ولم اسمعه يومًا يتململ أو يسخط من امتحانه الصعب الذي وُضِع فيه.. بل عاش حياته مُدركًا قيمة ما يحمله وبذل من أجل ذلك عمره كله..كتب كثيرًا وترك مادة مكتوبة عميقة ثاقبة يُستفاد منها ثمّ وضع قلمه وأخذ بندقيته حين استدعى الأمر وراح يدافع بصدق وشجاعة عن إيمانه وقضيته.. لم يتنكّر لذاته ولأسرته بل علّمنا جميعًا كيف نعتزّ بذواتنا دون تعصب ولا طغيان ولا ظلم.. لم يكن والدي فقط «رجُل حرب» كما كان يصف نفسه، لكنه كان أكثر من ذلك بكثير..كان توليفة عجيبة من رجل حرب وكاتب ورجل دولة ومثقف ومؤمن يحمل الهم مُذ عرفته..وأما الآن فنحسب أنه قد أدّى ماعليه لم يتخاذل ولم يستكين..وآن له الآن أن يرتاح،آن له أن يضع ثقل قلبه ويفرح بفضل الله ورحمته..آن له أن يُنهي امتحانه وينتقل لجوار الحق سبحانه..آن لروحه أن تفارق جسده الذي انهكته الطلقات والشظايا وماعند الله خير وأبقى..آن له أن يترك قلمه وبندقيته للمفكرين والأحرار من بعده ولا نقول إلا مايُرضي ربنا لله الأمر من قبل ومن بعد والحمدلله على لطفه وقدره ورحمته الواسعه وكرمه الجليل..الحمدلله أن جعلني ابنته وإلى لقاء آخر يا والدي في جنّة وعدها الله للصادقين. جمعك الله برفاقك السابقين الأحرار وشملكم بفضله ورحمته وعزاؤنا أنك عشت حُرًا كريمًا واختارك الله شهيدًا بطلًا كما كنت تتمنى مُذ عرفتك نحسبك كذلك ولا نزكّي على الله أحد. تأبى الشجاعة أن تفارق أهلها.. والحُر يأبى أن يموت جبانا* قاتل الله الجبناء..والرحمة والخلود للشهداء.
إيمان عبدالله الحاضري
إلى والدي: علوٌ في الحياة وفي الممات 1158