قام أردوغان مؤخرا بحركة ذكية وغير متوقعة؛ فبعد أن حققت بلاده النصر في ليبيا بوقوفها لجانب حكومة الوفاق إلى حين تشكيل رئاسة وحكومة جديدتين، ونصر آخر في إقليم ناغورنو كاراباخ مما فتح الباب على مصراعيه أمامها على مناطق القوقاز وآسيا الوسطى، وعملياتها العسكرية الناجحة في كل من العراق وسوريا ومزاحمتها لإيران هناك، اتخذت توجها نحو التصالح مع النظام المصري بخطوات ابتدأتها منتصف العام الماضي من خلال تصريحات ودية من قبل عدد من المسؤولين، ثم أعلنت عن اتصالات دبلوماسية بين البلدين لأول مرة منذ سنين، ونهاية الأسبوع الفائت وجهت بإعادة ضبط الخطاب الإعلامي لقنوات المعارضة المصرية التي تعمل على أراضيا .
تعلم تركيا جيدا أن الظروف قد تغيرت على ما كانت عليه عام 2013م، وأن بقاء مصر في الطرف المناوئ لها وركونها إلى اليونان وإسرائيل وفرنسا يضرها كثيرا، وقد استغلت جميع تلك الدول النظام المصري أحسن استغلال وكادت أن تدفع به للتدخل في ليبيا، واستمرار تسخير إمكانيات مصر الثقافية والعسكرية وجعلها رأس الحربة في مهاجمة تركيا من شأنه أن يعرقلها في سبيل نهضتها وتعزيز مكانتها، وهي تعي أن الخلاف بينهما ليس استراتيجيا بتضارب الأهداف والمشاريع كما هو الحال بينها وبين روسيا مثلا، ودائما ما يقول أردوغان في خطاباته "ليس لدينا مشكلة مع الشعب المصري" وهذا كله يدفع تركيا للتصالح وفتح صفحة جديدة .
ويخطئ من يظن أن الخطوات التركية علامة عجز وضعف واستسلام للأمر الواقع إذ التصالح سيفيد الجانبين معا لاسيما مصر التي - للأسف -
منذ توقيعها لاتفاقية كامب ديفيد لم يعد لها دور مؤثر وحاسم وتكتفي فقط بالتفرج عن الأحداث الساخنة في المنطقة العربية وليس لديها خطط للتنمية واهتمام بالصناعات المختلفة ولم تستغل الثروة البشرية الضخمة، وتعتمد كثيرا على الاستيراد والمساعدات من دول الخليج واقتصادها ضعيف مقارنة بتركيا التي تحولت من دولة فاشلة إلى دولة قوية لها وزنها وحضورها منذ أن اعتلى حزب العدالة والتنمية الحكم، لذا الحديث عن شروط مصرية لتركيا بالانسحاب من بعض الدول العربية لعودة العلاقات لا وجود له، وفاقد الشيء لا يعطيه .
خذ على سبيل المثال لا الحصر ثروات الغاز شرقي المتوسط وليبيا؛ فبينما تعمل تركيا على حفظ حقوقها وترفض اتفاقيات ترسيم الحدود وترسل سفن للتنقيب عن الغاز بإمكانات محلية، قام النظام المصري بإبرام اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية مع كل من قبرص واليونان ودولة الاحتلال تنازل بموجبها عن ضعف مساحة دلتا النيل تقريبا لصالحهم مع ما تحويه من ثروات غازية، بينما التقارب بينهما من شانه إعطاء مصر مساحة كبيرة ستجني بعدها المليارات، وعلى ما يبدوا بدأ النظام المصري يفهم ذلك عندما طرح مناقصة الشهر الماضي للبحث عن الطاقة الهيدروكربونية لم تشمل الجرف القاري التركي الذي حُدد وفقا للاتفاقية المبرمة مع ليبيا في نوفمبر 2019م .
وعلى ذكر ليبيا، مصر خسرت رهانها على حفتر وتخلت عنه، ولم تجد بدا من الرجوع مجددا إلى طرابلس لكي يبقى لها دور في تسوية الأزمة هناك حيث الحضور التركي المتعاظم، وشيء مشابه حدث معها مع قضية مقاطعة قطر .
وتعي تركيا أن علاقتها مع مصر ليست مجرد مصالح مشتركة بل هي أعمق من ذلك بكثير، فبرغم ما حصل بينهما خلال الفترة الماضية إلا أن العلاقات الاقتصادية لم تنقطع؛ فالأسمدة والألياف والمنتجات النسيجية والوقود والزيوت المعدنية والحديد والصلب وغيرها من السلع ما زالت تتدفق، وفي ازدياد مطرد كل عام، ووصل حجم التبادل التجاري العام الماضي لأكثر من 5 مليار دولار، وهناك المئات من رجال الأعمال الأتراك في مصر يوفرون آلاف الوظائف، وقطعا سيزداد خلال الفترة المقبلة .
ولعل المصالة ستشجع النظام في مصر على تحويل اهتماماته من الجماعات " الإرهابية" والأمن القومي العربي إلى قضية محورية ومصيرية تتعلق بأهم متطلب من متطلبات الحياة ويتوقف مستقبل الناس عليه (المياه) وهو سد النهضة الأثيوبي الذي يمكن لتركيا أن تتوسط بينهما لدرء العطش القادم حيث تعتبر ثاني أكبر مستثمر في أثيوبيا بعد الصين .
وهكذا يتضح أن تركيا لديها الكثير لتقدمه لمصر، ومن يقدم ويعطي أكثر مما يأخذ يكون الأعلى دوما .