مع ظهور أي أزمة أو انتهائها، أو قرب نهاية نظام مستبد، وعند وفاة (أو مقتل) زعيم ديكتاتوري أو رحيل مسؤول فاسد، تظهر دوما تلك الدعوات، غير البريئة، إلى نسيان مسببات تلك الأزمة، وتجاهل ماضي ذلك النظام، و"التسامح" مع سيئات الزعيم المفدى الذي لم ينجب البلد مثله، وضرورة التكيّف مع المسؤول الفاسد أو المجرم، وربما إعطائه فرصة أخرى لقيادة المرحلة الجديدة.
هذا ما يحدث في البلدان المتخلفة اقتصاديا، والأوطان الفقيرة للديمقرطية، واليمن واحدة من تلك البلدان التي عانت من غياب الديمقراطية، وسطوة الأنظمة المستبدة، وتفشي ثقافة التبرير لتلك الأنظمة، وهي ثقافة أضحت مرضا مزمنا، وجدت بيئتها الخصبة في نخب مريضة بالنرجسية وتصخم الأنا الأيدلوجية وعبادة "المال المسيّس"، أو ولَه "السعي إلى المكانة".
لقد عملت تلك النخب اليمنية، طوال حكم نظام "المخلوع" صالح، على تزييف الكثير من المفاهيم وتشويه العديد من المبادئ، وفي مقدمتها مفهوم "التسامح" الذي تحول إلى "ملجأ هروب" لكل مستبد وطاغية، و"حائط اختباء" لكل فاسد اقتصاديا وفاشل سياسيا، خوفا من رياح الثورات وغضب الشعوب.
"التسامح" باعتباره قيمة أخلاقية، يعني تنازل الفرد أو المجموع، عن حقه في مقاضاة أو معاقبة المعتدِي والظالم، ويقتضي تسامح الفرد تقديم تنازلات لصالح الآخر، أسرة مثلا، بهدف الحفاظ على سير الحياة المشتركة بأقل قدر من المشاكل، بينما يأخذ تسامح المجتمع تجاه جزء منه؛ أفرادا أو نظاما، تنازلات لصالح المجموع، بهدف تحقيق الحد الأدنى من "التعايش".
التسامح بهذا المعنى، لا يصدر إلا من طرف يمتلك "قوة"، ليست بالضرورة عسكرية، وقد نجحت مجتمعات حديثة نسبيا، وهي تسعى لحل مشكلة الصراع على السلطة السياسية، في تمثّل مبدأ التسامح كمخرج لتأسيس منظومة قانونية تعمل على حل مشكلات الصراع حول السلطة، عرفت بـ"العدالة الانتقالية"، وهي عدالة مبنية على تقديم تنازلات وفق "توازن القوة" أو "توازن الضعف"، يتم من خلالها مسامحة الأنظمة المسؤولة؛ أو الأفراد المسؤولين، عن الجرائم، مقابل الذهاب "توافقيا" من السلطة.
لكن التسامح في اليمن، كموقف سياسي، أخذ منحى مختلفا عن مضمون التسامح، كموقف أخلاقي، حيث أن التسامح، بالمعنى الأخير، يأتي بشكل مؤقت ومن قناعة أو عن ضرورة، لكن "التسامح اليمني"، إن صح التعبير، يفضي إلى "العفو" عن القتلة وإطلاق سراح المجرمين، دون اشتراطات تضمن "العدالة الانتقالية"، أو ضمانات "قانونية انتقالية" تمنع عودتهم إلى نافذة السلطة بعد خروجهم من بابها.
هذا التسامح تحوّل في اليمن إلى ثقافة سياسية، رُسخت بفضل نخب حزبية وثقافية، تربت في "قبو" الأيدلوجيات الحزبية، وعاشت في كنف غرف الحزبية الضيقة، وتغذت على موائد النظام المستبد، ومع كل زوال لنظام طاغ أو نهاية لحزب حاكم، أو انهيار لسلطة مليشيا، تنبري تلك "النخب المسيّسة" للبكاء على أطلال الزعيم، والشجن على ما تسميه؛ فضائل النظام، وتؤدي بجرأة مهمة تسويق وجود حسنات للمليشيات، وتتفنن بالعزف على نغمة الترحم على زمن المسؤولين الفاسدين.
هذه النوعية من النخب، وجدت فرصتها خلال زمن المخلوع صالح، وظلت وفيّة لنشر ثقافة التبرير لأخطائه السياسية، ومع انهيار سلطته بسبب ثورة فبراير الشعبية، انتفضت حينها للدفاع عن ضرورة "التسامح" مع جرائمه، وحاليا تدندن بشغف نغما حنينيا لزمن صالح، رغم أن ما يحدث الآن ما هو إلا نتيجة منطقية لممارسات "نظامه الارهابي"، ومن المفارقات أن تلك النخب هي ذاتها التي تسوق فكرة التسامح مع جرائم المليشيات؛ في شمال وجنوب وشرق وغرب اليمن، وتنظّر بحماس منقطع النظير لتطبيع الحياة المجتمعية معها.
لقد وجدت "ثقافة التسامح السياسية" مع الظلم والجرائم والأخطاء السياسية، طريقها لعمق المجتمع اليمني، بسبب عاملين مهمين؛ الأول: مرتبط بصفة "الطيبة" التي تعد من سمات اليمنيين، ولطالما لصقت بهم، وكانت سببا رئيسيا في تحكم كثير من الأنظمة القمعية، محلية وخارجية، برقابهم، والعامل الثاني: متعلق بـ"مفهوم التدين" الذي دعم بقوة فضل "عفو المؤمن" والإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، وهو "عفو" و"إيمان" تضخم منه الجوانب السلبية، التي وصلت لحد الرضا بالحاكم ولو "جلد" أو قتل.
لقد كان من المؤسف أن الثقافة الحزبية والسياسية، التي تراكمت خلال السنوات الماضية، تم بناؤها على "ثقافة التسامح" مع الواقع السياسي الظالم والمستبد، وتفضيل انتظار "الإصلاح السياسي" على فكرة الثورة عليه، حتى أنه ومع قيام الثورة الشعبية ضد نظام صالح، تم حرف مسارها باتجاه "التسامح" مع جرائم النظام، وإعطاء زعيمه الحصانة من العقاب، وعندما سقطت صنعاء بيد مليشيا الحوثي، كنتيجة طبيعية لذلك التسامح، تم منح تلك المليشيا عهدا لـ"السلم والشراكة"، وهكذا ظلّت "ثقافة التسامح" تعطي صكوكا بلا ضمانات لكل مليشيا متمردة، كان آخرها "اتفاق الرياض" الذي منح لمليشيا الانتقالي مكافأة على تمردها وانقلابها، بمعنى أدق "تسامحا" مع جرائمها.
هذا "التسامح اليمني"، هو ما يجب أن نقف ضده، وما يجب أن نحذر منه الأجيال الحاضرة، لأن التسامح بهذه الصيغ السياسية التي عقدت منذ نظام صالح وحتى الآن، ليست سوى تعبير عن ثقافة سياسية ممنهجة، مدعومة من أنظمة خارجية، لإبقاء اليمن رهينة "القابلية للاستعمار"، وما يقع على عاتقنا الآن، هو أن نتسلح بالقليل من "الحقد" لننجو، خصوصا عندما نكون في حالة ضعف اقتصادي ووهن سياسي، فالتسامح في كل الأحوال ينبغي، كما هو تعريف الفيلسوف الألماني يوهان جوته، "أن يكون موقفا أخلاقيا مؤقتا فقط"، لأن التسامح بمعنى التحمل، بتأكيد جوته، هو "إهانة".