هاتوا جردة حساب لاتفاق «أوسلو» بمرحلتيه: مرحلة عرفات، ومرحلة عباس. عمر الأولى 11 عاما، فيما عمر الثانية 16 عاما.
سنتسامح قليلا مع المرحلة الأولى، رغم أنها فاتحة الكارثة، وسنفعل ذلك لجملة أسباب
؛ أولها، أننا تحدثنا عنها آلاف المرات في مقالات وتغريدات، ولا حاجة للإعادة من جديد بذات التفاصيل، وثانيها أن التجربة كانت جديدة، وكان بوسع أصحابها أن يقولوا «دعونا نجرّب»، إذ يمكن لهذه التجربة أن تفضي إلى تحقيق الحلم بطبعته «الفتحاوية» الجديدة بعد «من البحر إلى النهر»، إلى دولة ذات سيادة بحدود 67، وذلك بعد أن نضع أقدامنا في أرضنا، بدل التشتت في العواصم البعيدة.
لم يحدث ذلك بطبيعة الحال، وهذا محمود عباس نفسه الذي كان أحد عرّابي الاتفاق، وشهد قمة كامب ديفيد، صيف العام 2000، يقول لقد نجونا من مأزق كبير، حيث لم يتجاوز المعروض «كانتونات معزولة» عن بعضها البعض على أجزاء من الضفة والقطاع، من دون سيادة ولا قدس ولا عودة لاجئين (هو ذاته الذي ما زال معروضا إلى الآن)، مع أن جوهر الفشل كان بعنوان القدس الشرقية التي قال عنها حمامة اليسار الصهيوني وقتها (يوسي بيلين)، إن «هيكلها» يساوي الكعبة للمسلمين!!
سبب آخر للتسامح الذي تحدثنا عنه هو الخطوة التالية التي خطاها عرفات رحمه الله بعد القمة المذكورة، وبعد زيارة شارون للأقصى إثرها، وذلك حين جعل السلطة وحركة «فتح» جزءا من انتفاضة الأقصى؛ أحد أهم مراحل النضال في التاريخ الفلسطيني، ووصل به الحال أن جلب سفينة سلاح (كارين إيه) من إيران، وهي الخطوة التي ساهمت دون شك في قرار اغتياله.
هنا تحديدا، ثمة تاريخ بالغ الأهمية لا يعرف عنه «شبيبة فتح» الذين استيقظوا على رمز جديد، أو لنقل «شيخ قبيلة» جديد، اسمه محمود عباس، ولم يعرفوا الكثير عما فعله بالرمز السابق، بدفع من الأوروبيين والأمريكان والصهاينة، وكيف كان الأخير يسميه «كرزاي فلسطين»، ويتهمه مع صديقه (دحلان) بالعمالة بشكل مباشر وغير مباشر، بجانب «ضرّة» دحلان في الضفة (جبريل الرجوب).
هذا الرمز الجديد (عباس) وصاحبه دحلان، وقفا على النقيض من كل الشعب الفلسطيني حين توحّد على صعيد واحد في انتفاضة الأقصى، واعتبروا المقاومة «لعبة كارثية»، وظلوا على ذلك ولم يغيّروا، لكن ذلك لم يمنع تدشين كتاب ملوّن عن إنجازاته، و»أوبريت» عن بطولاته، ومن ثم تتويجه بطل الأبطال الذي أفشل «صفقة القرن»، لكأن أحدا، كان بوسعه التوقيع على بيع القدس، وأخذ «كانتونات» على أقل من نصف الضفة الغربية، بلا سيادة، بحسب هرطقات ترامب، وصهره الصبي كوشنر.
هذا التاريخ، يجب أن يعرفه شبيبة «فتح» اليوم، من أتباع عباس في الضفة، وأتباع دحلان في غزة، كي يعرفوا ماذا فعل كل منهما بالحركة وتاريخها، وما هي علاقتهم بالاحتلال، وكلاهما أسوأ من الآخر، وصراعهما أصلا، لا صلة له بفلسطين، بل بمصالح شخصية، لا سيما بعد هجاء دحلان لنجلي الزعيم.
يجب أن يحدد هؤلاء الشبيبة ما إذا كانوا أعضاء في قبيلة حزبية، «إن غوت غووا»، و»إن رشدت رشدوا»، أم هم شبان بوصلتهم فلسطين. بوسعهم أن يكرهوا حماس، وأن يقولوا فيها ما يشاؤون، ولكن ذلك كله شيء، والدفاع عن العار والخيانة شيء آخر.
منذ 16 عاما، تمّت إعادة فك وتركيب لسلطة أوسلو التي سمّاها كاتب صهيوني شهير (عكيفا الدار) بـ»الاختراع العبقري المسمى سلطة فلسطينية».
السلطة التي حملت عن الغزاة الوجه القذر للاحتلال، وأراحتهم من أعبائه الاقتصادية والسياسية والأمنية (سهولة اصطياد جنوده ومستوطنيه ورموز إدارته المدنية في الشوارع).
جاء الجنرال الأمريكي دايتون عام 2005، وفرّغ الأجهزة الأمنية من كل روح وطنية؛ بإقالة 3 آلاف من الضباط القدماء، وجاء بمن سمّاهم «الفلسطينيين الجدد».
أما بلير فصاغ البعد الاقتصادي للسلطة، على نحو يجعلها سلطة مال واستثمار، لا صلة لها بالوطن والوطنية، وأشغل الناس بالقروض والأموال، وقامت السلطة بإعادة تشكيل وعي الناس في المساجد والجامعات كي يتركوا خيار المقاومة وينشغلوا بتحسين شروط الحياة، ورأينا كيف تم إسكاتهم حين كانت غزة تخوض 3 حروب.
وحتى هذا البعد (أي الانتخابات في 2006)، كان جزءا من اللعبة للتعامل مع السلطة كدويلة، وليس كأرض محتلة، وشعب يبحث عن التحرير، وإن جاءت النتيجة التالية على غير ما يشتهون، من حيث بناء قاعدة مزعجة للمقاومة في غزة، رغم بقائها مقيّدة بسبب استحالة الجمع بين السلطة والمقاومة، وخيارات عباس قبل ذلك.
منذ ذلك الحين، لم يكن عباس سوى خطيب يهدد ويتوعّد، ولا يفعل شيئا أمام تصاعد الاستيطان والتهويد، وأمام الإجراءات الصهيونية، والقرارات الأمريكية، ومع ذلك يستمر التصفيق له، كأنه بطل الأبطال!!
اليوم وبعد 6 شهور من وقف ما يسمى «التنسيق الأمني»، وبعد أن ذهب عرب التطبيع خطوات بعيدة في التحالف مع العدو، والتمهيد لـ»الحل الإقليمي»، الذي يعني تطبيعا واسعا، يحيل المؤقت دائما بمرور الوقت، والصراع إلى مجرد نزاع؛ يعيد عباس «التنسيق الأمني»، ويسمي وزيره (حسين الشيخ) ذلك؛ بخفة ووضاعة «انتصارا»، وبذلك يقدم أعظم هدية لعرب التطبيع والانبطاح، ويمهّد الأجواء لـ»الحل الإقليمي» المشار إليه، أو التصفية الناعمة للقضية بيد الصهيوني (بايدن)، بدل غطرسة ترامب التي لم تكن لتجدي نفعا.
سيحدثونك عن المال والرواتب، متجاهلين أن ذلك كله كان من مسؤوليات الاحتلال، ويمكن أن يعود، وإذا لم يعد بحلّ السلطة، فسيعود بأموال أشقاء وأصدقاء، عبر انتفاضة شاملة، لها فرصة انتصار كبيرة في ظل وضع دولي وإقليمي لا يخدم العدو، لا سيما حين ترفع شعارا ينسجم مع القرارات الدولية (دحر الاحتلال بالكامل عن الأراضي المحتلة عام 67، دون اعتراف بما تبقى للغزاة).
الآن، لا جدوى من المداهنة مع قيادة عار وخيانة كهذه، وعلى حماس والجهاد وما تبقى من فصائل ورموز وتجمعات تؤمن بفلسطين أن تجتمع فورا، وتتخذ مسارا للتصدي لهذه الخيانة، بالتعاون مع من يملك الاستعداد من شرفاء «فتح»، وإلا فنحن أمام كارثة كبرى، لن يوقفها سوى انفجار شامل في الضفة وغزة، يقاتل السفلة من كل لون لمنعه بكل وسيلة ممكنة.
وإذا كان ولا بد من إطار جديد غير «منظمة التحرير» التي جعلها عباس مؤسسة تافهة وتابعة، فليكن ذلك، لا سيما أن حماس والجهاد وحدهما يمثلان أكثر من نصف الشعب في أي انتخابات حرة في الداخل والخارج.
حين تصل الخيانة الحضيض، فلا مجال للمداهنة.
كفى.. نعم، كفى.
لست مستعداً بعد للتخلي عن إمكانية أميركا
باراك أوباما
ألفت كتابي للشباب – كدعوة للمشاركة، عبر العمل الشاق والعزيمة وجرعة كبيرة من الخيال، في تحقيق أمريكا التي تنحاز أخيراً نحو كل ما هو الأفضل فينا.. في ختام فترة رئاستي، صعدت أنا وميشيل إلى الطائرة الرئاسية للمرة الأخيرة وسافرنا غرباً في إجازة ما لبثت تؤجل منذ زمن طويل. كان الجو في الطائرة مزيجاً من حلاوة ومرارة. كنا كلانا في غاية الإرهاق، بدنياً وعاطفياً،
ليس فقط بسبب مشقة الأعوام الثمانية السابقة ولكن أيضاً بسبب النتائج غير المتوقعة للانتخابات، والتي تم فيها اختيار خلف لي يتناقض تماماً مع كل ما نؤمن به. ومع ذلك، وحيث أننا أتممنا السباق إلى آخر المطاف، كنا نشعر بالرضى لعلمنا أننا بذلنا كل ما في وسعنا، ولعلمنا أيضاً بأنه مهما شاب فترتي الرئاسية من قصور وأياً كانت المشاريع التي كنت أتمنى إنجازها ولكن أخفقت في إتمامها، فلقد كانت البلد في وضع أفضل مما كانت عليه عندما استلمت الرئاسة.
على مدى شهر كامل، كنت أنا وميشيل ننام في وقت متأخر، ونتناول العشاء بتأن، ونخرج للمشي مسافات طويلة، ونسبح في المحيط، ونُجري جرداً، نجدد صداقتنا، نعيد اكتشاف حبنا، ونخطط لمهمة ثانية أقل صخباً ولكن لا تقل إشباعاً، كما رجونا. اشتمل ذلك بالنسبة لي على كتابة مذكراتي الرئاسية. ما أن جلست وبيدي القلم وأمامي كراسة الكتابة الصفراء (مازلت أحب كتابة الأشياء بخط اليد، إذ وجدت أن الكومبيوتر يمنح حتى مسوداتي الأولية مسحة ناعمة ويضفي على الأفكار نصف الناضجة قناعاً من الأناقة)، حتى تشكل في ذهني إطار واضح للكتاب.
أولاً وقبل كل شيء، رجوت أن أقدم وصفاً أميناً للفترة التي قضيتها في الرئاسة – ليس مجرد تدوين تاريخي لأهم الأحداث التي وقعت تحت ناظري والشخصيات المهمة التي تعاملت معها، وإنما أيضاً سرد لبعض التيارات السياسية والاقتصادية والثقافية غير السلسلة التي ساعدت في صياغة التحديات التي واجهتها إدارتي والاختيارات التي نفذها فريقي تجاوباً معها. وحيثما تسنى، أردت أن أمنح القراء إحساساً بما يعنيه أن يكون المرء رئيساً للولايات المتحدة. أردت أن أفتح الستارة قليلاً وأذكر الناس بأن الرئاسة، بكل ما تشتمل عليه من نفوذ وأبهة، ما هي سوى وظيفة، وأن حكومتنا الفيدرالية إنما هي مشروع بشري مثلها مثل غيرها، وأن الرجال والنساء الذين يعملون في البيت الأبيض يمرون بنفس التجربة اليومية من الرضى والخيبة والاحتكاك المكتبي والإخفاق والانتصارات الصغيرة مثلهم مثل بقية مواطنيهم. وأخيراً، أردت أن أروي حكاية شخصية لعلها تلهم الشباب الذين يفكرون بالعمل في القطاع الحكومي: كيف بدأ عملي في عالم السياسة بالبحث عن مكان يمكن أن أندمج فيه، وعن طريقة لشرح الجدائل المختلفة التي يتشكل منها إرثي المخلوط، وكيف أنني فقط عندما ربطت عربتي بشيء أكبر من ذاتي تمكنت أخيراً من أن أجد المجتمع والمناسب لي والغاية التي أنشدها في حياتي.
قدرت أن بإمكاني أن أفعل ذلك في خمسمائة صفحة، وتوقعت أن أنتهي من الكتاب في غضون عام واحد.
من الإنصاف القول إن عملية الكتابة لم تمض بالضبط كما كنت أخطط لها. فبالرغم من كل حساباتي ظل الكتاب يزداد طولاً ومجالاً – وهو ما جعلني أقرر في النهاية إلى توزيعه على مجلدين اثنين. أدرك تماماً أن كاتباً أكثر موهبة مني لربما كان بإمكانه إيجاد سبيل ليقص نفس الحكاية باختصار أكبر (فقد كان مكتبي المنزلي في البيت الأبيض يقع تماماً في مواجهة غرفة نوم لينكولن، حيث كان يحتفظ داخل صندوق زجاجي بنسخة من خطاب غيتيسبيرغ المكون من 272 كلمة). ولكن في كل مرة كنت أجلس فيها للكتابة – سواء كان ذلك لوصف المراحل الأولى من حملتي الانتخابية، أو تعامل إدارتي مع الأزمة المالية، أو المفاوضات مع الروس حول التحكم بالأسلحة النووية، أو القوى التي أدت إلى انطلاق الربيع العربي – وجدت عقلي يقاوم السردية الخطية البسيطة.
من حين لآخر وجدتني مضطراً لتوفير سياق للقرارات التي اتخذتها بنفسي أو اتخذها الآخرون، ولم أرغب في ترحيل تلك الخلفية إلى ملاحظات أدونها في الهامش في ذيل الصفحة أو في نهاية الكتاب (فأنا أكره هذه الهوامش بكل أنواعها). وجدت أنني لم أكن دوماً قادراً على شرح دوافعي فقط من خلال الإشارة إلى رزم من البيانات الاقتصادية أو التذكير بتقارير المكتب البيضاوي المستفيضة لأنها كانت قد دخل في تشكيلها حديث لي مع شخص لا أعرفه أثناء الحملة الانتخابية، أو زيارة قمت بها لمستشفى عسكري، أو درس تلقيته في طفولتي من والدتي قبل سنوات طويلة. فكم من مرة ألقت ذاكرتي ما يبدو أنها تفاصيل عابرة (كالبحث عن مكان خفي لأتناول فيه سيجارة مسائية، أو تبادل الضحكات مع طاقم الموظفين العاملين لدي ونحن نلعب الورق على متن الطائرة الرئاسية) التقطت، بطريقة ما كان بإمكان السجل الرسمي أن يحققها، ما عشته من تجربة خلال السنوات الثمان التي قضيتها داخل البيت الأبيض.
إضافة إلى الجهد الشاق المبذول في إنزال الكلمات على الورق، ما لم أكن أتوقعه أو يخطر لي ببال هو الطريقة التي بدأت تجري بها الأحداث خلال ما يزيد عن ثلاثة أعوام ونصف العام مرت منذ تلك الرحلة الجوية الأخيرة على متن الطائرة الرئاسية. فقد أحكمت جائحة عالمية قبضتها على البلاد بما صاحبها من أزمة اقتصادية، ووفاة ما يزيد عن 230 ألف أمريكي، وما لحق بقطاع الأعمال والتجارة من دمار، وفقد ملايين الناس لوظائفهم. في كل أرجاء البلاد، تدفق الناس إلى الشوارع للاحتجاج على موت رجال ونساء من السود غير المسلحين على يد الشرطة. ولعل ما كان الأكثر إزعاجاً على الإطلاق هو ترنح ديمقراطيتنا على حافة أزمة، وهي أزمة متجذرة في تنافس أساسي بين رؤيتين متناقضتين لما آلت إليه أوضاع أمريكا ولما ينبغي أن تكون عليه، أزمة خلفت انقساماً وغضباً وارتياباً داخل الكيان السياسي وسمحت بانتهاك مستمر لأعرافنا وإجراءاتنا وضماناتنا المؤسساتية، وللالتزام بالحقائق الأساسية التي كان الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء يعتبرونها من المسلمات.
بالطبع، لسنا بصدد منافسة جديدة، فالمنافسة هي التي شكلت، وبطرق متعددة، التجربة الأمريكية. فهي كامنة في الوثائق المؤسسة التي كان بإمكانها بشكل آني إعلان أن جميع الرجال متساوون واعتبار العبد ثلاثة أخماس رجل. تجدون ذلك فيما عبرت عنه محاكمنا الأولى من آراء، مثل عندما شرح كبير القضاة في الولايات المتحدة بكل فجاجة لسكان البلاد الأصليين بأن حقوق قبائلهم في نقل الملكيات غير قابلة للإنفاذ لأن محكمة الغزاة لا صلاحية لديها للاعتراف بالمطالب العادلة لمن وقع عليهم الغزو. إنها نفس المنافسة التي دارت رحى معاركها في حقول غيتيسبيرغ وأبوماتوكس وكذلك داخل ردهات الكونغرس، وعلى جسر سيلما في ألاباما، وفي حقول العنب في كاليفورنيا وفي شوارع نيويورك – منافسة قاتل فيها الجنود أحياناً ولكن في أحيان أكثر خاضها منظمو النقابات والمطالبون بحق الاقتراع، والعاملون في النقل، والقيادات الطلابية، وأمواج من المهاجرين، ونشطاء حركة الدفاع عن حقوق الشواذ جنسياً بكل أصنافهم، لا يوجد بحوزتهم من السلاح سوى اللوحات والمنشورات أو زوج من الأحذية قطعت بها أقدامهم المسيرات. وفي القلب من هذه المعركة طويلة المدى يكمن السؤال البسيط التالي: هل يعنينا أن ينسجم واقع أمريكا مع المثل التي قامت عليها؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فهل نعتقد فعلاً بأن أفكارنا عن الحكومة الذاتية والحقوق الفردية والتساوي في الفرص والمساواة أمام القانون تنطبق على الجميع؟ أم أننا ملتزمون بدلاً من ذلك، في الممارسة إن لم يكن في القانون، بأن نبقي هذه الأشياء حكراً على القلة القليلة من أصحاب الامتيازات؟
أدرك أن ثمة من يعتقدون بأنه حان الوقت للتخلص من الأسطورة، وذلك أن التمعن في ماضي أمريكا وإلقاء نظرة سريعة على العناوين الرئيسية في يومنا هذا تثبت أن مُثل هذه الأمة كانت على الدوام ثانوية يأتي قبلها باستمرار الغزو والقهر، ومنظومة من التمييز العنصري والرأسمالية الشرسة، وأن التظاهر بغير ذلك ما هو سوى تواطؤ في اللعبة التي شابها التلاعب والتزوير منذ البداية. وأعترف أنه كانت هناك أوقات أثناء تأليف كتابي، عندما كنت أستذكر فترة رئاستي وكل ما جرى منذ ذلك الوقت، حينما كنت أسأل نفسي عما إذا كنت مقتصداً جداً في الصدح بالحقيقة كما رأيتها، بسبب الحذر الشديد، كلاماً وفعلاً، وقد تحققت لدي القناعة بأنني من خلال التوجه نحو ما أطلق عليه لينكولين الملائكة الأفضل في طبائعنا فإنني أملك فرصة أكبر في قيادتنا في اتجاه أمريكا التي وُعدنا.
لا أدري. ما بإمكاني قوله على وجه التأكيد أنني لست مستعداً بعد للتخلي عن إمكانية أمريكا – ليس فقط من أجل الأجيال القادمة من الأمريكيين وإنما أيضاً من أجل كل البشر. إنني على قناعة بأن الجائحة التي نعيشها حالياً إنما هي مظهر وفي نفس الوقت مجرد انقطاع في المسيرة الشاقة نحو عالم متواصل، عالم لا تملك فيه الشعوب والثقافات خياراً سوى التصادم. في ذلك العالم – من سلاسل الواردات العالمية، والتحويل الآني لرؤوس الأموال، ووسائل التواصل الاجتماعي، والشبكات الإجرامية العابرة للحدود، والتغير المناخي، والهجرة الجماعية، والتعقيد الذي يزداد يوماً بعد يوم – سوف نتعلم كيف نعيش معاً، ويتعاون بعضنا مع بعض، ونعترف بكرامة الآخرين، وإلا فإننا سننقرض. ولذا فإن أنظار العالم مصوبة تجاه أمريكا – القوة العظمى الوحيدة في التاريخ التي تشكلت من بشر جاءوا من مختلف أصقاع الكوكب، ممثلين لكل عرق وكل دين وكل ممارسة ثقافية – ليروا ما إذا كانت تجربتنا مع الديمقراطية قابلة للنجاح. ليروا ما إذا كان بإمكاننا أن ننجز ما لم تتمكن أي أمة أخرى من إنجازه. ليروا ما كنا إذا فعلاً قادرين على نحيا في انسجام مع ما تتضمنه نحلتنا من معاني.
لم ينطق المحلفون بالحكم بعد. بل أجدني متشجعاً بما رأيته من إقبال أعداد غير مسبوقة من الأمريكيين على صناديق الاقتراع في انتخابات الأسبوع الماضي، أولئك الذين خرجوا ليضعوا ثقتهم في جو بايدين وكامالا هاريس، في خصالهما وفي قدرتهما على أن يفعلا ما هو صواب. ولكنني أعلم أنه ليس بإمكان أي انتخابات واحدة حسم الأمر. فالانقسام بيننا عميق، والتحديات التي نواجهها مضنية. إذا بقيت يحدوني الرجاء بشأن المستقبل، فما ذلك في جزئه الأكبر إلا لأنني تعلمت أن أضع ثقتي في مواطني، وخاصة أولئك الذين يمثلون الجيل القادم، ممن جُبلوا طبيعة على الاعتقاد بأن جميع الناس متساوون في القيمة والكرامة، والذين يصرون على تحقيق المبادئ التي تعلموا من آبائهم وأمهاتهم ومدرسيهم أنها الحق حتى وإن لم يؤمنوا هم بها بشكل راسخ. أوجه كتابي هذا بالدرجة الأولى إلى الشباب، وأدعوهم لأن يشاركوا تارة أخرى في إعادة صناعة هذا العالم، وأن يحققوا من خلال العمل الشاق والعزيمة وجرعة كبيرة من الخيال أمريكا التي تنحاز أخيراً نحو كل ما هو الأفضل فينا.
(اقتطفت هذه المقالة من كتاب أوباما الذي يوشك على الصدور بعنوان «أرض موعودة»)