*"أولئك الذين لا يستطيعون تذكر الماضي محكومون بقدَر تكراره"*. قال هذه الجملة الفيلسوف الأمريكي من أصول إسبانية جورج سانتايانا في العام (1905)، كان العالَم حينها يتهيأ لصراعات طويلة الأمد، ولكن الأطراف المتعادية لم تأخذ تحذير الفيلسوف مأخذ الجد، لم تتذكر الماضي جيداً، ما جعلها تذهب باتجاه خوض حرب عالمية أولى (1914 - 1918).
النتائج الكارثية لهذه الحرب العظمى فرضت توقيع معاهدة فرساي (يونيو 1919)، ومع ذلك فإن الموقعين على هذه الاتفاقية صاغوها بلغة المنتصر، دون مراعاة العوامل التي مهدت للحرب ودون خلق تسويات عادلة للمنهزم فيها، لقد وضعت اتفاقية فرساي حدا للحرب الأولى لكنها لم تنه أسبابها، لقد تم نسيان الماضي مرة أخرى، وهو ما أدى لانفجار حرب عالمية ثانية (1939-1945).
التدمير الكبير الذي أحدثته الحرب الثانية، جعل زعماء الولايات المتحدة الأمريكية يتأملون بعناية في أخطاء معاهدة فرساي، وذهبوا باتجاه صياغة العلاقات بين بلدهم والدول الكبرى، وضعت في الاعتبار تذكر أخطاء الماضي، وهو ما خلق استقرارا سياسيا في الدول التي تشكل الآن ما يعرف "بالمجتمع الدولي"، وهو الاستقرار الذي جعل الدول المتقدمة تتفرغ للتنمية والعلم وقيادة العالم.
عند التأمل في سيرة الدول العظمي، منذ زمن ما بعد الحرب البادرة وحتى الآن، سنجد أنها تخوض صراعاتها فيما بينها وعيونها مصوبة نحو أحداث الماضي، وتحرص عند خوض نزاعات دبلوماسية واقتصادية وتكنولوجية أن لا تكرر أخطاء العقود السالفة، وتتجنب الوصول إلى حروب عسكرية، لقد توصل صناع القرار العالمي لتفاهمات حول كيفية إدارة الصراعات الاقتصادية بعيدا عن الحروب الدموية، وثقت ذلك في المؤتمر الاقتصادي العالمي (1971).
وفي بداية هذا الشهر من العام الجديد (2020)، انعقد المؤتمر الاقتصادي العالمي الذي ضم كبار زعماء العالم، في مدينة دافوس السويسرية، لمناقشة أساليب معالجة الأزمات الراهنة المرتبطة بالاحتباس الحراري والصراع الاقتصادي الأمريكي مع الصين وتأثير الصراع الأمريكي الإيراني على مسار التجارة الدولية، وكان من الواضح أن حكمة( تذكر أخطاء الماضي) ماثلة أمام قادة العالم، والتي أضحت حكمة سياسية تدار بها المصالح الدولية وحتى الخصومات بالطرق الدبلوماسية والأدوات الناعمة، ناقلين تجارب السلاح والصراع عبره ومن خلاله إلى مناطق الشرق الأوسط.
على ذات المسار الزمني التالي للحرب العالمية الثانية وحتى اللحظات الراهنة، فإن هذه الحكمة الاستثنائية؛ تذكر الماضي لتجنب تكراره، لم تجد طريقها إلى البلدان العربية؛ خصوصا منها تلك التي تتربع على خطوط النفط وأنابيب الغاز، تكرار الماضي في علاج مشاكل الحاضر بل في تشكيل المستقبل، هو السياسة الثابتة والصلبة التي يتم السير عليها في المنطقة العربية، حتى ولو على حساب دمار البلدان ونزوح وتجويع الشعوب.
لقد مرت حروب كثيرة داخل المنطقة العربية، ومرت أحداث عظيمة الشأن، ولكن العقلية العربية لم تتغير، يمكن النظر إلى طريقة تعامل السعودية والإمارات؛ مثلا، مع الحدث الأهم خلال العقد الحالي، والمتمثل بـ"الربيع العربي"، لقد اتخذت الدولتان سياسات دموية ضد حلم الشعوب بالتغيير السلمي، واعتمدت تلك السياسات على دعم الانقلابات والحروب الصغيرة وتشكيل المليشيات المضادة للحكومات الشرعية، وصياغة اتفاقات سياسية لخلق الأزمات، بهدف حماية التفتيت والتجزئة والتقسيم.
ومع أن هذه السياسات لم تحقق مراد عاصمتي الثورة المضادة؛ الرياض وأبوظبي، بل خلقت تهديدات وجودية للعاصمتين، وحولت المنطقة العربية إلى ماراثون للفوضى، وكانت النتيجة ذهاب أغلب العواصم العربية لصالح نفوذ إيران، إلا أن الدولتين الخليجيتين تصران على الاستمرار في سياسة جر الماضي بأخطائه إلى الحاضر بهدف تشكيل مستقبل الدول العربية، التي تقع الآن رهينة نفوذين متصارعين؛ واشنطن وطهران.
لقد أفرزت التجارب السياسية في العالم؛ قديمة وحديثة، نوعين من الدول والكيانات والجماعات وحتى الأشخاص؛ أولئك الذين يستطيعون تذكر الماضي، وأولئك الذين لا يستطيعون تذكره، وقد نجا الصنف الأول من الوقوع في أسر كوارث الماضي وفخ مجازره، وبقي الصنف الثاني؛ أسير أخطاء الماضي ومحكوماً بتكراره، وأغلب الصنف الأخير من دول العالم الثالث ومنها الدول العربية، ويمكن النظر لما يحدث في سوريا والعراق وليبيا ولبنان ومصر واليمن، وتأمل كيف يكرر العرب ماضيهم الدموي، بفخر قومي ودفاع ديني وغباء لا مثيل له، وكيف هي حياة هذه الدول محكومة بـ"قدَر تكرار ماضيها".