أخذت مجريات الأحداث الأخيرة في عدن تستجر الماضي بكل تفاصيله في المحافظات الجنوبية والشمالية على حد سواء.. فالإقصاء والتهجير السياسي والمناطقي عامل مشترك وجسر عبور يستجر الماضي إلى حاضر اليوم.
ما يقوم به ما يسمّى المجلس الانتقالي من خطوات لإقصاء خصومه من القيادات الجنوبية سواء كان في هيكل الحكومة المزعوم التوافق عليها، أو من خلال تواجد خصومه على جغرافيا الجنوب بشكل خاص.
هذا التوجه الأرعن دعا إلى استحضار تاريخ طويل من الإقصاء لقيادات جنوبية كان أبرزها الرئيس السابق/ على ناصر محمد، وجميع رفاقه، حين اشترط الحزب الاشتراكي- بقيادة علي سالم- مغادرة ناصر اليمن كشرط لوحدة الشطرين آنذاك.
هذا الصلف العقيم دعا ناصر إلى استحضار ذلك الماضي ودعا غيره إلى كتابة شهادتهم على مجريات تلك الأحداث التي سبقت ورافقه إعلان الوحدة وأحدثت جدلاً واسعاً وردود أفعال..
آخر تلك الشهادات كانت للأخ/ أحمد مساعد حسين، في رسالة بعثها إلى الناشط/ شفيع العبد.. جاء فيها:
شهادة اللواء أحمد مساعد حسين حول موضوع اشتراطات إخراج جماعة علي ناصر محمد من صنعاء عام 90م.
الولد العزيز شفيع العبد،، المحترم
تحية لك مقرونة بشكر وعتب، الشكر على السؤال والتواصل، والعتب على إثارتك لموضوع شائك في هذه الظروف التي تمر بها بلادنا، والتي تتطلب التسامي ورفع المعنويات لمواجهة التحديات الراهنة، بدلاً من استجرار الماضي.
وبما أن قادتنا قد أدلوا بشهاداتهم رداً على تساؤلك، فمن باب الأخلاق والتواضع لزاماً عليّ الإجابة على استفسارك، وتقديم ما استطعت استذكاره، والإدلاء بشهادتي من خلال الملاحظات المختصرة التالية، بالإضافة إلى قصيدة شعرية جادت بها قريحتي سنتذاك وأنا في محافظة صعدة تحكي قصتنا حينها، وقد عنونتها بـ"أنشودة الحب والتوحيد"، من منطلق أن الشعر دائماً ما يكون له بالغ الأثر في حياة الشعوب، وشعبنا قبل شعرائه، يعرف ما تعنيه الرموز الشعرية مثل الصقر والطاؤوس والهدهد ومرشد وغيرها من الرموز التي حوتها القصيدة وهي تعبّر في ذلك الوقت عن الوضع العام لليمن ووضعنا الخاص.. ولك مني التحية والاحترام.
لقد اطلعت على شهادة الأخ الرئيس/ علي ناصر محمد وشهادة الأخ/ محمد علي أحمد وكلها صحيحة من حيث شرحها للوضع العام، واختلافها ربما في تفاصيل ما حدث، وذلك في تقديري الشخصي يعود إلى نقطتين جوهريتين هما:
أولاً: الاعتماد في هذه الجزئية من تاريخنا على الذاكرة الشخصية وحدها، وهي التي أرهقها عامل السن - بالنسبة لنا الثلاثة- بالإضافة إلى ما يلحق بها من تعب جراء تذكر الأحداث الكبيرة والأليمة التي مرينا بها في ما أنقضى من أعمارنا وما تخلفه من هموم ومتاعب لا حصر لها.
ثانياً: مرور أكثر من 30 عاماً على هذه الحادثة الأليمة..
لذلك استميح القراء الأعزاء العذر إذا ما وجدوا اختلافاً في التفاصيل التي لا تؤثر بدورها على صحة الواقعة.
أتذكر أنه بعد الإعلان عن اتفاق عدن حول الوحدة الاندماجية، استدعانا الرئيس المرحوم/ علي عبدالله صالح، ومما قاله لنا بأنه عند مناقشة وضع المعارضين الجنوبيين في الشمال والمعارضين الشماليين في الجنوب، طُرح مقترح بأن كل شطر يرتب وضع المعارضين عنده في إطار حصته الـ 50%، إلا أن قيادة الحزب الاشتراكي رفضت ترتيب وضع أي شخص من المحسوبين على الزمرة مطلقاً. وأنه يمكن لها النظر في ترتيب وضع بعض الشخصيات الجنوبية المعارضة ما قبل يناير 1986م.. وأضاف صالح بأنه قال لقيادة الحزب الاشتراكي، بالنسبة لنا في الشمال ليس لدينا أي تحفظ على أي معارض شمالي ترون ترتيب وضعه في أي منصب على حصتكم.. وهكذا تمت الصفقة التي كانت نتيجتها إقصاء تيار جنوبي واسع حتى من المشاركة في احتفالات الوحدة وليس من المناصب فحسب.
بالنسبة للأخ الرئيس/ علي ناصر محمد، فقد تحدثوا عن موضوع مغادرته صنعاء بصورة ثنائية لم نكن حاضرين فيها، أقصد لقاء بينه والرئيس صالح، وهذا ما بلغنا فيما بعد.
أما نحن محمد علي أحمد وعبدالله علي عليوة وعبدربه منصور هادي وأحمد عبدالله الحسني وأنا، فقد جلس معنا الرئيس/ علي عبدالله صالح- رحمه الله- بعد مغادرة علي ناصر محمد، وقال لنا بأنه يرى بأن يرتب وضعنا في السفارات اليمنية، على أساس محمد علي أحمد وأنا سيتم تعييننا سفراء في دولتين من الدول الكبرى، وبالنسبة لعبدالله علي عليوة وعبدربه منصور هادي وأحمد عبدالله الحسني سيعينهم ملحقين عسكريين في سفاراتنا لدى موسكو واشنطن ولندن على التوالي.
طبعاً رد عليه الجميع بالرفض، وقلنا بصوت واحد، يكفي أنكم طردتم علي ناصر محمد الذي تمت في عهده صياغة دستور دولة الوحدة، وهو الذي أوقف الحرب في المناطق الوسطى بعد سنوات من القتال وسفك الدماء وساعدكم في تهدئة الأوضاع في الشطر الشمالي وبنى معكم علاقات استراتيجية سبقت الوحدة بسنوات كحسن نية تبدأ بالتنقل بين الشطرين بالبطاقة وغيرها من الإنجازات على طريق التمهيد لتحقيق الوحدة.
رد علينا صالح، بأنه لم يطرد علي ناصر وإنما رتّب أموره وأسرته حتى تهدأ النفوس وأنه سيعود إلى صنعاء، وقال أما أنتم لا تفهمون شيئاً في السياسة ولكن ساعدونا في تحقيق الوحدة.
وكان ردنا له هذه المرة بأنه يكفي خروجنا من عدن ولن نخرج مرة أخرى خارج حدود اليمن.
وبالنسبة للقاء الذي ذكره الأخ/ محمد علي أحمد لم أحضره، وليس لي علم بالذي دار فيه.
بعد ذلك استدعانا الأخ/ علي محسن الأحمر، وقال لنا إن الأخ/ علي سالم البيض وقيادة الحزب رافضين يدخلون صنعاء وأنتم موجودين فيها.. وسألناه ما المطلوب منا؟ قال تغادرون صنعاء إلى أي محافظة تختارونها من محافظات "مأرب وصعدة وحجة والحديدة وتعز وإب" والقصور الرئاسية فيها مفتوحة لكم واستضافتكم على نفقة المحافظين كاملة.
بدوري قلت له" نحن جاهزين للتنفيذ في سبيل إتمام عملية الوحدة التي هي هدف لنا منذ استقلال الشطر الجنوبي وبناء دولته. هنا تدخل الأخ/ محمد علي أحمد وقال لي: من فوضك توافق؟ وقلت له أنا شخصياً ذاهب ومن يريد معي إلى صعده.
وفعلاً غادرنا صنعاء إلى صعدة نزولاً عند رغبة قيادة الحزب، وكان معي العم/ عبدالله علي عليوة والشهيد البطل العم/ سالم علي قطن، وآخرون لم تسعفني الذاكرة لحصر أسمائهم.
بالنسبة لبقية الأخوة توزعوا على المحافظات، فالأخ/ عبدربه منصور هادي ،غادر إلى حجة، والأخ أحمد عبدالله الحسني غادر إلى الحديدة، أما الأخ محمد علي أحمد، فقد عاد إلى بيته وغلّق على نفسه وقطع الاتصالات كما أخبرنا عند عودتنا إلى صنعاء بعد حوالي 15 يوماً.
قيادة محافظة صعدة استقبلونا بحفاوة، محافظها الأخ/ محمد جار الله والوكيل/ يحيى الشائف ومدير الأمن/ محمد طُريق- رعاهم الله وأدام عليهم الصحة- وظلينا في ضيافتهم لأكثر من أسبوع، وكانوا يتبارون في إكرامنا والاهتمام بنا بصدق ومحبة، وكل واحد منهم يريدنا أن ننزل ضيوفاً عليه في منطقته، ولكل منهم أحقيته علينا، فبني حشيش- الأقرب إلى صنعاء- والشائف يقول بأنه الأحق لأننا من أصول دهمية، وطُريق هم الأقرب لنا مكاناً وزماناً بني مذحج.
شكرناهم على حسن الضيافة والكرم وغادرناهم صوب حجة ثم الحديدة ثم تعز وإب، وكل محطة كانت في قصور الرئاسة وعلى نفقة المحافظين، وكانوا وأنعم في كرمهم ومودتهم. ثم عدنا إلى صنعاء بنفس الطريق.
عزيزي شفيع: ليس المهم اشتراط خروجنا من صنعاء، بل هناك ماهو أهم منه وأخطر ودليل لا يقبل الشك على أن ما حدث توجه رسمي لقيادة الحزب، والمتمثل في اشتراطهم بأن الألوية التابعة لنا أي (الزمرة) لا يتم ضمها إلى القوات المسلحة، وتبقى تحت تصنيف الفئة (ب) كما كانت قبل الوحدة، وهو ما انعكس على منتسبيها الذين ظلوا محرومين من أي امتيازات أو استحقاق وظيفي. بل إن كل المحسوبين على الزمرة من عسكريين وأمنيين ومدنيين ظلوا محرومين من كل الامتيازات الوظيفية التي حصل عليها طرفا الوحدة، ليس هذا فحسب بل إن أسر شهداء 86 المحسوبين على الزمرة- أيضاً- طالهم الحرمان من كل الاستحقاقات القانونية.
إزاء هذه المعاملة المهينة وما خلفته في نفوسنا وواقعنا الوظيفي والسياسي والاجتماعي، كان ردنا في 1994 في غاية الأهمية ووقوفنا إلى جانب الجيش في شمال الوطن، حيث كنا في الصفوف الأولى للمقاتلين، بل قادة للمعارك في المناطق الجنوبية والشرقية دفاعاً عن الوحدة، وكان أبناء الجنوب في الأغلب بما يمثل 90% من السكان مع الوحدة، لأنهم استفادوا منها مادياً ومعنوياً، قبل أن تهجم عليهم عصابات المتنفذين والناهبين.
هذين العاملين أدّيا بدورهما إلى هزيمة قيادة الاشتراكي وجيشها بسرعة كبيرة بالمقارنة مع الإمكانيات المادية المدعومة بها من دول الجوار وتضاريس الجنوب الجغرافية ومساحتها المترامية الأطراف.
وفي آخر شهادتي هذه، أنصح الجنوبيين بشكل عام، بالاعتراف ببعضهم البعض على قاعدة التعايش والقبول بالتنوع، وتطبيق قيم التصالح والتسامح على أرض الواقع وليس في الشعارات والخطابات، وهذا يتطلب شجاعة أدبية وأخلاقية ووطنية توجب كبت العواطف المناطقية والعصبوية والانفتاح والتعايش مع الجميع، ودون هذا سنظل ننتقل من السيء الذي نعترف به إلى الأسوأ لا سمح الله. والله يكون في عون الجميع.
وأختتم حديثي هذا بالقصيدة التي كتبتها وأنا في صعدة في شهر مايو عام 90 بعنوان (أنشودة الحب والتوحيد) وقلت فيها:
يا ربنا قد خلقت الكون في موعد
واسماك في كل شيء في الكون موجودة
وبأمرك النـــاس تتفرق وتتوحـد
وعـــروش تبنى وتصبح بعد مهدودة
والناس أدوار حد ينزل وحد يصعد
زعلان فرحان في المنزل وصعوده
هذا قضاء الله لا قاضي ولا سيد
قادر سوى أن كان جود الله من جوده
فالحمد له واشكره واصوم واتعبد
في خشوع وايمان متعبد لمعبوده
وبعد شعب اليمن في عرسه اتحشد
يوم انتصر يوم راح العزم مشدودة
يوم اعلنت وحدة الشطرين وتجدد
مجده وعزه وينهض يوم مولوده
أنشودة الحب والتوحيد تتردد
في كل أنحاء اليمن لايام مشهودة
وتحية الشعب يهديها إلى القائد
ابن اليمن لم شمل البيت بجهوده
الرايس الجيد ذي كافح وذي جاهد
قاد الجماهير حتى نفذ وعوده
وتقاسم الصقر والطاؤوس والهدهد
حب الذرة ذي لها اليدات ممدودة
أما العصافير في أعشاشها ترقد
ماشي لها في قسم نقصه وتزووده
وكل ما يطلبونه أمن يتوطد
وحرية ومعيشة غير منكودة
والآن بتخبرك يالصاحب الأوحد
ماذا جرى تفتحون أبواب موصودة
هل ضعف أم هو زجاء أو حضنا الأنكد
أم سر مكتوم في نشرات محدودة
طلب وحقق وطالب دون يتردد
حتى بلغ للعنب وشل عنقوده
وستضعف الوقت عندك يوم يتجمد
لما طلع واحتماء بحبال مسنودة
واصحابك الصدق حد ضايع وحد يُطرد
بلا سبب يبعد الضابط من جنوده
وغيرهم يوكلونه بارد أمبرد
وأهل الوفاء بالمواقف شبه مطرودة
في يوم لا يجوز فيه أبيض وفيه أسود
واحنا مع شعبنا ذي كسر قيوده
واحنا دفعنا الثمن لما قبل مرشد
انه يغني لكم أو ينكسر عوده
وسلم العود والمزمار لك باليد
وأهدى القصائد لكم والحان منشودة
وأصبحت مسؤول أول غير متحيد
بيناتنا حول شوك الحقل ووروده
فساونا في العمل والرأي والمورد
بالحق أعطي لكل انسان مردوده
والماضي المؤلم المنكود يتسدد
ويعلم أن المنافذ فيه مسدودة
طعنا الأوامر ولا في يوم نتردد
منذ عرفنا رفيق أدروب موعودة
واليوم بعض الأوامر شيبت بحمد
لأنها خارج الدستور وبنوده
فكيف ترمي بنا خارج المسجد
وتحرمونا صلاة الصبح وسجوده
باطل على الرأس والله والنبي يشهد
ودموع ودماء وعوائل ناس مفقودة
ما نقبل الظلم مهما راعده يرعد
الموت أسهل لنا من ظلم باسوده
نثور لأجل الكرامة بل ونتمرد
ونصونها بالدماء وسيوف مجرودة
نصائحي تحذر الثعلب إذا استأسد
سيوزع المكر في مجموعة أسوده
والحاكم اليوم يحذر لا قوي يفسد
عليه يرجع إلى التاريخ وعهوده
وأعطي قريبك مكانه قبل أن يبعد
وأعطي لخصمك حقوقه حسب مجهوده
والختم صلوا على طه النبي محمد
عساه يشفع لنا من نار موقوده.