يعود ميلاد اليمن جغرافياً إلى بداية التكوين الجيولوجي للأرض٬ ويسبق ميلادها السياسي نشوء الحضارات القديمة٬ أي ما قبل نشوء الكتابة والإنسان كعقل مفكر٬ وهو الإنسان الذي ساهم في صياغة أسس بناء الدول٬ بينما ولدت السعودية في منتصف القرن الثامن عشر٬ ومع أن ميلادها تزامن مع وجود الدولة الحديثة٬ إلا أنها لم تنجح في بناء دولة بمعايير النظم المتقدمة٬ وقد عمل هذا التباعد الحضاري على تكبير الفجوة بين السعودية واليمن٬ وهو ما أنتج عقدة نفسية في "العقل السياسي الملكي"٬ الذي صاغ نظرية سعودية أضحت مقدسة٬ مفادها؛ أن بقاء اليمن قويا وموحدا يشكل مصدر تهديد وجودي للمملكة٬ ولهذا نجد أن السعودية ظلت منذ انطلاق ثورة (26/سبتمبر/1962) تتعامل مع اليمن على أنها قطعة أرض مجاورة لها٬ يجب الحرص على بقائها فقيرة وضعيفة ومحتاجة٬ ولم يحدث أن تعاملت المملكة مع جارتها اليمن كدولة مستقلة ذات سيادة.
وبعد نجاح ثورة سبتمبر في إسقاط الملكية الإمامية٬ التي كانت تدين بالولاء لها٬ تدخلت السعودية لإحباط تكوين نظام جمهوري حقيقي٬ وسعت لفرض تسوية سياسية توافقية٬ تسللت بموجبها رموز الملكية في مؤسسات اليمن الجمهوري٬ ونتجت نخبة حاكمة انتهازية تابعة للمملكة٬ وتمت تصفية كثير من رموز سبتمبر٬ وظلت اليمن سياسيا رهينة الوصاية السعودية٬ التي دعمت صعود علي صالح للسلطة٬ وهو الرجل الذي ظل وفيا للمملكة حتى انفجار ثورة فبراير (2011).
وبشكل يشابه زمن ما بعد ثورة سبتمبر٬ تدخلت السعودية لإحباط ثورة فبراير٬ وفرضت تسوية سياسية عرفت بالمبادرة الخليجية٬ والتي دمجت بمكر بين نظام المخلوع صالح وبين الأحزاب المعارضة له في حكومة توافقية٬ بينما دعمت في ذات الوقت سياسة هيكلة الألوية التابعة لنظام صالح مع الألوية الموالية لثورة فبراير٬ ومررت الرياض عبر هذه الهيكلة العسكرية٬ مليشيا الحوثي السلالية التي نمت في نطاق حدودها الجغرافية مع اليمن٬ بعد أدخلت عبر الضغوطات الأمريكية في "الحوار الوطني"٬ وهي المليشيا التي نفذت انقلابها المشؤوم (21/ سبتمبر /2014).
مع خروج مسار أحداث ما بعد انقلاب الحوثي عن سكة قطار الرياض٬ وتحول ولاء الحوثي السياسي نحو طهران٬ تدخلت المملكة بغرض تأديبه وليس لإنهائه٬ وأخرجته من المناطق الجنوبية وجزء من مناطق الشمال٬ ثم تفرغت بعدها لفرض سياستها التفكيكية في المناطق المحررة من الحوثي؛ الجنوبية خاصة٬ أوكلت للإمارات مهمة تطويع عدن والمناطق الساحلية وتقويض الشرعية فيها٬ وتولت هي مهمة احتواء الشرعية في المناطق النفطية٬ ومع انكشاف هذه الخطة وظهور مقاومة شعبية ضدها٬ قامت الإمارات بتنفيذ انقلاب في عدن (مطلع أغسطس 2019).
تولت السعودية؛ كالعادة٬ الوقوف كوسيط بين الشرعية والمتمردين عليها٬ بعد أن خرجت مرة أخرى خيوط اللعبة عن مسار سكتها٬ دعمت بقاء المناطق النفطية؛ كشبوة٬ تحت نطاق الشرعية٬ وضغطت لخروج الإمارات (دورها المباشر) من عدن٬ وتحركت لفرض تسوية سياسية تضمن انتقال مليشيا الانتقالي من تبعية الإمارات إلى تبعيتها٬ وبقاء الحكومة والمليشيا تحت تصرفها٬ يمكن فهم ذلك من خلال بنود اتفاق جدة التي تنص على بقاء قوتين أمنيتين في عدن٬ واحدة لحماية الرئيس هادي وأخرى لحماية الانتقالي وزعمائه٬ في الوقت الذي تتفرغ فيه السعودية للإشراف على بناء قوة أمنية "محايدة" ستكون تحت تصرف الحكومة٬ أي حزام أمني "سعودي" بديل للحزام الأمني "الإماراتي".
بهذه الخطة التوليفية العجيبة ستكون في عدن ثلاث سلطات سياسية٬ بمعيتها ثلاث سلطات أمنية٬ سلطة الرئاسة بقوات الحماية الرئاسية٬ وسلطة الانتقالي بقوات أمنية تابعة لها٬ وسلطة الحكومة بقوات أمن محايدة "حزام أمني سعودي"٬ وفي التفاصيل سترابط خارج عدن ألوية عسكرية تابعة للشرعية وأخرى تابعة الانتقالي٬ في انتظار عملية هيكلة قد تشابه في تفاصيلها الهيكلة التي تلت المبادرة الخليجية.
تفكر السعودية وهي تفرض تسويات لليمن على مقاس رؤيتها الضيقة٬ أنها ستنجح في خلق نظام يمني جديد لا يخرج عن "نطاق جغرافيتها السياسية"٬ ورغم أنها تدرك صعوبة تطويع بلد؛ كاليمن٬ لا يمكن أن يستقر إلا في نظام يتلائم مع ماضيه الحضاري٬ إلا أنها تكرر "بغرورها الاستراتيجي" ذات التجارب الفاشلة في اليمن٬ من ثورة سبتمبر وحتى الآن٬ وهي تجارب قد تنجح السعودية في جعل اليمن ضعيفة٬ لكنها لن تسطع أن تجعل من السعودية دولة محترمة ومهابة٬ فالدول العظمى هي التي تحفظ سيادة دولها الجارة٬ لأن حفظ سيادة الدول وحده من يحقق استقرار وأمن الدول الغنية٬ دون ذلك ستبقى السعودية ترفل في نعيم ملكي على نفط عائم٬ قابل للانفجار في لحظة مزاج حادة لمليشيا يمنية٬ في الشمال الراهن وربما الجنوب القادم؛ أو الواهم.
*المقال خاص بنوقع اليمن نت.