في منتصف 1987 م كان الأستاذ/ علي سالم البيض- أمين عام الحزب الاشتراكي- مضطراً لحمل دفتر توفير بريدي في جيبه كجواز سفر أو بطاقة مرور بعد تعرضه لحملة تشهير مفتعلة من الجنود في المعسكرات التي كان يزورها في عدن ضمن جولات التمهيد لكونفرنس الحزب بعد عام ونيف على أحداث13 يناير1986 م*. من أين لك هذا وكم هو راتبك ؟؟ وهذه قصة دفتر التوفير اللعين التي اضطرته ضمن أسباب أخرى إلى الحماسة ومطالبة علي عبدالله صالح وقيادات الشمال بوحدة اندماجية فورية مع الجنوب. كان ابن البيض الأكبر عدنان قد بنى لنفسه غرفتين فوق سطح منزل شعبي تقيم فيه عمته بالتواهي, وهي الذريعة والشماعة التي استغلها خصوم البيض العسكريين(القرويين) للحيلولة دون توليه قيادة الحزب والدولة معا وعرقلة مهامه فيما بعد.. فوجد الرجل نفسه في قفص الاتهام بعد أن تحولت الغرفتان والدارة والحمام والمطبخ إلى قضية وطنية تهدد أمن الدولة وجريمة كبرى ليس بعدها ولا قبلها. ونجح ذباب المسالخ (الدعائي) الذي كان يتنقل بين أسواق ومطاعم ومقاهي عدن في تحويل ذلك إلى قضية رأي عام للتشكيك بنزاهة وذمة أعلى رأس في الحزب والدولة.. ولم يفلح علي سالم البيض في تبرير خيانته الوطنية العظمى وهو يفتح دفتر التوفير الخاص بعدنان أمام جنود المعسكرات, أن أحد أخوته أو عم عدنان المغترب هو الذي يرسل إليه بمصاريف خاصة من الإمارات, ومنها بنى الغرفتين.. ليفاجأ بعدها أيضاً بسؤال المرحلة الصاعق ومفتاح السر: طيب أولاً أنت كم قدمت شهداء ودماء في 13 يناير لما تشتي تقع رئيس علينا..؟.. فعرف البيض أنه (ما فيش فائدة) رغم أنه كان أشجع القادة فأصيب في كتفه وساعده وهو يدافع عن ما تبقى من رفاقه في قاعة الاجتماعات.. وأضافوا: انته خالفت دولة النظام والقانون وخنت الحزب وتزوجت حرمة ثانية وما طلقت الأولى !!** يبدو أنهم كانوا على وشك تطليقه من السلطة, فقط كانوا بحاجة إلى حشد المزيد من الذرائع والتخريجات كما هي حال نسختهم (الاحتياطية) المعدلة الجديدة الحالية في الجنوب عندما يريدون التخلص من الخصوم الآخرين (اخونجية, فشنجية, وداعش، طواهش، دحابيش، خرابيش) بعدها نزعوا منه رئاسة الدولة ومنحوها لحيدر العطاس الذي وجد نفسه في دوامة (زنزانة العسكر) ولم يتبق من سلطاته سوى (الاسم والصورة واللقب) التي تؤكد أن العطاس لا يزال (حي يرزق).. وللتضييق على البيض أكثر ركزوا إلى جانبه في زعامة الحزب الشكلية/ سالم صالح محمد في منصب أمين عام مساعد الذي لا يوجد في اللوائح والنظام الداخلي للحزب!!.. لكنها (شرعية العسكر) وحكم القروي والجاهل. أما الدكتور ياسين سعيد نعمان (الصبيحي) رئيس مجلس الوزراء فكان أكثرهم حظا، فهو لم يستطع استعادة وانتزاع إدارة مصانع الفيوش للطماطم الذي توقفت إنتاجيته ولا تعليب أسماك شقرة والجمعيات الزراعية التي استولى عليها عساكر 13 يناير، لكنه كان قادرا اقل شيء على مواجهتهم وفضح أخلاقياتهم أمام الرأي العام فلجأ إلى جدار الإعلاميين الذي لم يخذله.. * الاحتماء بالوحدة والنفط * كانت تلك بعض مبررات قيادات الجنوب المعتدلة في الهروب من جحيم (شرعية بيادات العسكر) إلى الوحدة الاندماجية (المتسرعة).. إلى جانب انهيار اقتصادي وشيك.. دفع الأستاذ/ سالم صالح محمد عام 1989 م إلى القول في قاعة سينما بلقيس أمام حشد من الإعلاميين (كنت ضمنهم) أن البنك الأهلي اليمني (المركزي) على وشك الإفلاس مع وجود 2 مليار دينار بلا غطاء بنكي أو ضمانات) بينما كانت ثروات النفط المكنوزة في حقول شبوة المشتركة مع محافظة مأرب كفيلة بإنقاذ الجنوب, إذ كان الشمال يعتمد على نفط صافر، فيما تعثر تصدير نفط شبوة بسبب تنازع الشطرين على الأحقية فيه. ولا يمكن لمن عايش وشهد تلك الحقبة الغوغائية إلا مقارنة ما حدث حينها بما يحدث اليوم في الجنوب من تشوهات وفوضى تخريبية، مع فوارق إضافية إننا انتقلنا من مرحلة( إذا لم تستح فافعل ما تشتهي) إلى مرحلة دراماتيكية أسوأ تلخصها عبارة المخرج الأمريكي الشهير صموئيل بيكيت وهي( إذا رفضني الناس سوف افرض نفسي بوقاحة).. هكذا فعلوا أيضاً ويفعلون مع عبدربه وحكومته منذ يوليو 2015 م, رئيس ممنوع من العودة إلى بلاده وليس لمزاولة مهامه فقط، ووزراء وحكومة يحجرون من دخول مطار عدن ويضيقون عليهم ثم يطلقون ذريعة أن الحكومة فاسدة فشلت في أداء واجباتها, وفعلا يوجد وزراء فاسدون واختيارهم أكثر فسادا لكنهم لم يمنحوا الناس فرصة لتقييمهم، عدا أنهم لا يمثلون البديل الأفضل.. وعندما كان عيدروس محافظا لعدن تنازل لأخيه بوثائق رسمية عن منتجع ومتنزه خليج الفيل المملوك لأحد المواطنين وصادرته سلطة الاشتراكي ثم الصالح.. ثم من هم الذي نهبوا أراضي وأملاك الدولة والمواطنين في عدن والمنطقة الحرة غير حماتها الجدد.. ويتذكر خالد بحاح أول مسؤول حكومي وصل مطار عدن كيف منعه الغجر من دخول المطار وأصروا على مغادرته و(دلهفوه) أيضا قبل تدخل الضباط الإماراتيين (أولياء النعمة).. ثم من بعده الرئيس هادي الذي كادت طائرته تسقط فوق عدن وتحليقها الطويل بعد منعها من الهبوط وتوجهها بعد ذلك مضطرة إلى مطار سقطرى، وقائد اللواء الرابع حماية رئاسية مهران قباطي الذي (جاب خبر عيدروس الزبيدي) بعد منعه من دخول مطار عدن للمرة الثانية، وقبلهم الوزير نائف البكري اليافعي محافظ عدن الأسبق الذي لم يتركونه لممارسة مهامه دون تنغيص ومحاولات اغتياله، وأخيرا منعه من دخول عدن نهائيا كوزير للشباب والرياضة, وهو الذي بايعه هاني بن بريك المدخلي على قيادة جبهة عدن ضد اجتياح صالح والحوثي !!. وأمثلة الوزراء كثيرة وكذلك رئيس الحكومة بن دغر الذي منعوه حتى من حضور الاحتفالات الرسمية وترصدوا لمواكبه في عدن وسقطرى. وحتى اليوم لم يستفيدوا من تجربتهم الفوضوية السابقة التي ادخلوا فيها الجنوب في نفق اداري واقتصادي مظلم في مرحلة حكم علي سالم البيض والعطاس وكانت ضمن أسباب اندفاع قيادات الاشتراكي غير المدروس نحو الوحدة، فنصب المغامرون (العسكر) أنفسهم بديلا عن الدولة ومؤسسات الحكم، وتدخلوا في شؤون الإدارة بإحلال القيادة الحزبية في المصالح الحكومية وجعلوها فوق سلطة المدراء ورؤساء المؤسسات نفسها، فتحولوا بذلك إلى كارثة أكبر من فاجعة يناير ذاتها !!. * مشكلة دون حل* والحقيقة أن من يقود مشروع دولة الانتقالي حاليا هو التيار الذي رفض وحدة 22 مايو قبل إعلانها ومعهم ورثتهم، ومثلوا أقلية في قيادات الاشتراكي ثم أضيف إليهم اليوم حليف سلفجي مدخلي، جامي، سروري (إقليمي) له أجنداته وصولاته الخاصة. والعقلية التي قادت دولة ما بعد يناير 86 م هي نفسها المتحكمة بالجنوب اليوم وتأخذه نحو المجهول بتكرار الحماقات الانقلابية وإزهاق الأرواح وإغراق البلد في برك الدماء البريئة. تغيرت الشعارات والذرائع لكن الروح العدوانية (السيكوباثية) الإقصائية المدمرة المتربصة بالآخر وإلغائه هي ذاتها لا تكل ولا تمل أو تتزحزح خارج مربعات الهمجية وعادة الغوغائية وفزعة نفير الباطل الدموي. * عن أي قضية؟ * تداعيات 13 يناير 1986 أفضت إلى وحدة اندماجية بين شطري اليمن بتراضي الأطراف وليس بالقوة والقهر والغلبة، ونشأ منها كيان دولة جديد، فهل تفرض تداعيات الانقلابات والتمردات المتوالية الأخيرة للانتقاليين الانفصال بالقوة أم تؤدي إلى تمييع وطمس مسمى القضية نفسها..؟؟ والخلاصة هي: أن عقلية التفرد بفرض مشاريع فئوية على الآخر هنا وهناك بالقوة العسكرية المفرطة في قضايا مصيرية كبرى لا يؤهل أصحابها لقيادة وإدارة غيرهم, وأضرار ذلك أكبر على وحدة النسيج الاجتماعي في الجنوب قبل الشمال. وتعود أبرز أسباب تراجع نجاح مشروع كهذا إلى غياب التوازن بين ما هو سياسي وعسكري وأدوات الهدف المطلوبة, عدا مثلبة تصدر عقلية العسكر(المفرطة) كواجهة لقيادة مشروع وقضية سياسية مدنية بامتياز.. فلا نحن في حالة استعمار واحتلال أجنبي أو داخلي، كما أنه لم يتشكل إجماع جنوبي داخلي عام أكثر من التصدع والشروخ التي عمقتها دورات العنف الدموي الأخيرة في عدن، أبين، شبوة. وكما شخص المهندس حيدر أبوبكر العطاس رئيس وزراء اليمن الأسبق طبيعة أزمة مشروع الانتقالي في القفز على المراحل وعدم مواءمة الظروف والتعجل بخطوات عشوائية غير محسوبة.
هوامش