لم تكن هناك مفاجأة فيما جرى في عدن، فمنذ بدء المرحلة الانتقالية والنخبة اليمنية وأحزابها تتعامل مع الوضع اليمني بدون خيال، وبذات الأساليب التقليدية للرئيس السابق/ علي عبدالله صالح، لكن بدون قدرات صالح الشخصية من نشاط وحيوية يفتقرها خلفه، وكذلك لم تكن اليمن بلداً يمتلك ترف الوقت، فمثلاً لم يدر صالح البلد بمؤسسات الدولة بل بشبكة ولاءات شخصية أخذت منه أكثر من ثلاثين عاماً لبنائها إضافة لبداية نضوب موارد النفط التي كانت توفر سيولة مادية ضرورية لبناء شبكة الولاءات. سقطت العاصمة صنعاء، منذرة بمرحلة تفكك حتمية وضاعت فرص ضئيلة لتفادي هذا المصير الطبيعي لبلد سقطت عاصمته بيد ميلشيا طائفية ومناطقية، ويكفي أن ذكر الحكومة صار مقروناً بالمنفى والفساد والضعف معتمدة على أطراف خارجية إن لم تكن سيئة النوايا، فهي متخبطة بطبيعة الحال نظراً لتخبط وخمول حليفها الداخلي صاحب القضية الأصلية. الأحداث الأخيرة بعدن تفتح الباب على مصراعيه لمطالب الاستقلال وتطلعات الانفصال شمالاً وجنوباً، كما تعيد طرح التساؤلات حول الشرعية ومفاهيم القوة، حيث لايزال الوصول للسلطة باليمن مرهوناً بالعنف شمالاً وجنوباً مما أوصلنا لهذه الانقلابات وسلطات الأمر الواقع. الفارق بين انقلابات الماضي والحاصل حالياً هو أن انقلابات الماضي كانت ملتزمة بإطار الدولة ولم تكن تتجاوز تغيير السلطة بينما الحاصل الآن هو عملية تجريف للدولة ولشكلها وحدودها، والبدائل المطروحة تستمد مشروعيتها من الماضي وسردية المظلومية دون أية مشاريع مستقبلية واضحة الملامح. غياب المشاريع المستقبلية يدفع لسياسة التحشييد التي تعني الإبقاء على حالة الصراع أو الحرب للاحتفاظ بالمجتمع في حالة خوف دائمة، هذا ما يفعله الحوثي وسوف يفعله المجلس الانتقالي، كلاهما يعتمد على سياسة التحشيد على أسس الهوية وليس السياسة، فلا مكان للنقد أو الاختلاف بالرأي، مما يؤسس لحكم الفرد لا غيره وهي الآفة الحقيقية للسياسة باليمن. آفة الاستبداد التي قضت على إنجاز الوحدة سوف تقضي على أوهام إحياء الإمامة بالشمال ودولة الجنوب، لأنها ستخلق أنظمة فاسدة بطبيعة الحال وبالتالي اقتصاد متعثر وخدمات غائبة خاصة في بلد فقير الموارد الطبيعية مثل اليمن مما يقلص القاعدة الشعبية للنظام، حيث يضعف مفعول سياسة التحشييد مع مرور الوقت، كما أنه سيؤسس لنظام ذي طبيعة أسرية لأن المستبد لا يثق إلا بعصبيته مما سيقوض كل تحالفاته السياسية التي صعد بها ويفجّر منظومة الحكم من الداخل. انشغلت النخبة اليمنية بسؤالها عن الوحدة اليمنية وأيهما أفضل مرحلة الوحدة أم الانفصال، خاصة نخبة الجنوب ونقلت انشغالها للشارع، هذا أدى لمقاربات مخلة، حيث أصبح الحديث عن ماضي الجنوب فيه قدر كبير من الوهم والتضخيم. أصبحت مرحلة الاستعمار مجيدة، وهذا يتعارض مع منطق بسيط، فإذا كان الوضع كذلك لماذا قامت ثورة ضد الاستعمار؟ ومرحلة الحزب الاشتراكي تحولت إلى جنة العدالة والانضباط دون تساؤل، إذن لماذا انهارت دولة الحزب الاشتراكي في حرب أهلية سنة 86م؟ مما دفع للهرولة نحو الوحدة معلقين عليها آمالاً أكبر مما تتحمله. حرب 1994 لم تكن بين الشمال والجنوب، حيث تحالفت حكومة صنعاء مع قوات جنوبية من الفصيل المهزوم لحرب الجنوب الأهلية 1986م والتي كانت فرصته لرد اعتباره بعد التنكيل به إثر الحرب، وأدت حرب 94م لتنكيل جديد بمهزوم آخر، حيث سرح مئات الآلاف من موظفين مدنيين وعسكريين جنوبيين كانوا نواة السخط الشعبي وتجاهل مطالبه وحقوقه أدى لرفع سقف المطالب نحو الانفصال. مسألة الصراع بين شمال اليمن وجنوبه مضللة، حيث اقتتل الشماليون فيما بينهم أكثر ما اقتتلوا مع الجنوبيين وينطبق ذات الحال مع الجنوبيين حيث ذهب ضحايا الاقتتال الجنوبي- الجنوبي أكثر من ضحايا الحروب بينهم وبين الشمال، وهذه الحروب كلها كانت نتاج الصراع حول السلطة إثر استئثار فرد بالحكم. نظرية الصراع الشمالي- الجنوبي تعد انحرافاً واضحاً لحقيقة المشكلة باليمن المرتبطة بالعنف والاستبداد، استسهال استخدام العنف للوصول للسلطة، التي أخفق اليمنيون حتى الآن في تبني وسائل سلمية للحكم دون إراقة دماء، كما لم يتشكل الوعي المطلوب لإدانة العنف ونتائجه المخيفة على المجتمع والسياسة، ففي كل دورة عنف تتعرف اليمن لعملية تجريف ضخمة لأي تراكمات سابقة سواء كانت سياسية أو تنموية هذا غير هدمها للتماسك الاجتماعي. مشكلة العنف باليمن ليس فقط إنه أصبح دائرة عمياء لا تتوقف ولم تنكسر حتى الآن، حيث تتفجر الاستدعاءات التاريخية والثأرات القديمة تلقائياً مع أول طلقة رصاص، بل إنها أيضاً مرتبطة بفقر موارد البلد الطبيعية.. فالقبائل الميالة للقتال تسكن مناطق كثيفة السكان بلا موارد طبيعية وفي جبال ليست خصبة، ليصبح الاقتتال للحصول على غنائم أو الوصول لسلطة سياسية صارت مصدر إثراء، على عكس الدول الغربية التي صارت الثروة أحد أدوات الوصول للسلطة، بينما في اليمن العنف هو أداة الوصول للسلطة التي هي الطريق الأساسي للاستحواذ على الثروة. هذا يفسر طبيعة الطموح السياسي لقبائل الضالع ويافع بالجنوب وهم القوة المسلحة التي تشكل المجلس الانتقالي وكذلك قبائل مناطق شمال صنعاء التي تشكل القوة المسلحة للحوثيين، وسبب انقسام المجتمع اليمني لطرفين، قبلي يرمز للسلاح والعنف ورعوي-ريفي أو مدني يرمز للخضوع والمسالمة، وإن كانت هذه الثنائية تشهد تصدعات حقيقية لكنها لازالت غير كافية لتقويض هذه العلاقة المختلة. كحالة أي نظام استبدادي لا يستطيع استيعاب المهزومين والنظر لهم ليس كأعداء وخصوم بل كجزء من نسيج المجتمع لا يمكن معاداته، تظل سياسات التنكيل بالمهزوم في كل حرب أهلية باليمن طبيعية ومرتبطة بالاستبداد لا علاقة لها بالهوية المناطقية للحاكم، لذا لا يمكن تفسير سياسات نظام صنعاء نحو الجنوب بعد 1994 بأنها مجرد سياسة مناطقية لا تتعلق بالاستبداد ولا كيف نفسر انخراط الكثير من السياسيين الجنوبيين بهذا النظام؟ وكيف نفسر سياسات التنكيل بالطرف الجنوبي المهزوم عقب حرب 1986م؟ لازالت الأسئلة السياسية تخطئ طريقها حين توجه نحو المناطق والمذاهب وليس نحو السياسات ومفاهيمها وغياب أية تصورات تنموية واقتصادية لبلد يعاني من مشاكل خطيرة تتعلق بفقر موارده الطبيعية وتصل لحد شح المياه والجفاف في بعض المناطق. أول من يضل الطريق هم السياسيين بسبب عجزهم عن تقديم مشاريع سياسية مستقبلية، فيستعيضون عنها بخطاب يتهم الهوية ويعتبرها الملام الأول ويركب على موجتهم المثقفين لأسباب مالية أو انتهازية غالباً، أو ربما بسبب بساطة الطرح الهوياتي الذي يدغدغ مشاعر الجماهير معطياً زخماً للسياسات الشعبوية المؤسسة لحكم الاستبداد.
ميساء شجاع الدين
الوحدة أم الانفصال والأسئلة الخاطئة 807