قبل الوحدة اليمنية التي تمت في 22 مايو 1990 كانت السياسة السعودية تحبذ إبقاء اليمن مقسما لدولتين لاعتقادها بأن تحقيق الوحدة سيخلق دولة ذات توجهات ثورية يسارية معادية لها. وحين سنحت الظروف المحلية والإقليمية والدولية لتحقيق الوحدة بعد انتهاء الحرب الباردة، لم تبد السعودية معارضة علنية للوحدة، ولم تقم بجهود حقيقية لمنع قيامها، وعلى العكس من ذلك، أعلنت تأييدها للوحدة وتعهدت بتقديم مساعدات مالية لدعمها. غير أن الظروف اللاحقة لم تسنح للسعودية كي تترجم تلك التعهدات إلى أفعال؛ فبعد ما يقارب الـ 70 يوما على تحقيق الوحدة دخلت المنطقة طورا جديدا على إثر غزو صدام حسين للكويت في 2 أغسطس 1990، والذي قسم المنطقة وأفرزها في اتجاهين: معارض للغزو ومؤيد له. وكانت الدولة اليمنية الجديدة من الدول التي أيدت الغزو بشكل أو آخر، وهو الأمر الذي جعل السعودية تعزز من شكوكها المتوجسة من الوحدة اليمنية؛ فلم يكن من المتوقع على دولتي اليمن، لو لم يتحدا، أن تتخذ أي منهما موقفا مؤيدا للعراق؛ فالنظام في الشمال، وإن كان له علاقات جيدة بالعراق في تلك الفترة، إلا انه لم يكن من القوة ليغامر ويقف ضد السعودية، والتي كانت ستتقرب من خصمه التقليدي في الجنوب وتحرمه من الدعم المالي والسياسي الذي كانت توفره له. كما أن الحكومة الجنوبية لم تكن هي الأخرى في وارد دعم صدام حسين، حيث كانت علاقاتها به غير ودية. ونتيجة لذلك رأت السعودية أن قيام دولة الوحدة هو ما شجع الحكومة في صنعاء لتتخذ ذلك الموقف المعادي لها. وحين ظهرت الخلافات بين شركاء الوحدة على السطح بدأت السلطات السعودية في التقرب من الطرف الجنوبي وقدمت له الدعم والمساندة والتي بلغت ذروتها بعد اندلاع حرب صيف 1994 والتي أعلن الطرف الجنوبي في أثنائها الانفصال من جانب واحد. وإلى جانب السعودية أيدت جميع دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء قطر، المشروع الانفصالي في الجنوب، اعتقادا منها بنجاحه كون مؤسسات الدولة الجنوبية كانت لا زالت تحت سيطرة الطرف الجنوبي، ولحداثة دولة الوحدة. وبعد أن فشل المشروع الانفصالي نتيجة الهزيمة العسكرية وغياب الاعتراف الخارجي اضطرت السعودية للتكيف مع الوضع الجديد، وتم التركيز على حل مشكلة الحدود العالقة مع اليمن. وبعد شد وجذب وجولات من المفاوضات تم التوصل في عام 2000 إلى اتفاقية بين الرئيس اليمني السابق صالح والحكومة السعودية على ترسيم نهائي للحدود، صاحبها تعهدات سعودية معلنة وغير معلنة بدعم اليمن الواحد ونظام الرئيس صالح، وكان من ضمن تلك التعهدات التوقف عن دعم التوجهات الانفصالية لبعض القوى الجنوبية. وخلال الفترة اللاحقة على توقيع اتفاقية الحدود تغيرت النظرة السعودية لليمن وأصبحت أكثر ميلا نحو تأييد استمرار الوحدة اليمنية، فلم يظهر من السعودية منذ ذلك الحين وحتى سقوط صنعاء بيد الحوثيين في سبتمبر 2014 أي دعم مباشر أو غير مباشر لأي فصيل انفصالي في جنوب اليمن، وإن احتفظت بعلاقاتها التاريخية مع بعض القوى الجنوبية. ومن المرجح أن الموقف السعودي ذاك لم يكن نابعا من التزاماتها التي صاحبت اتفاقية الحدود وحسب ولكنه نابعا أيضا من مصلحة سعودية ورؤية عملية من قضية الوحدة، والتي أصبحت من وجهة نظر السعوديين مصدرا للاستقرار في اليمن، كون أي مشروع انفصالي لا بد وأن يؤدي إلى خلق الفوضى، وعدم الاستقرار، وهو ما ينعكس سلبا على السعودية. وبعد سيطرة الحوثيين على الحكم في سبتمبر 2014 وتشكيل السعودية "التحالف العربي" الذي دشن الحملة العسكرية تحت أسم عاصفة الحزم في 26 مارس 2015، غيرت السعودية من مواقفها تلك، فقد تم دعم السكان في المناطق الجنوبية لإيقاف تمدد الحوثيين للحيلولة دون سيطرتهم على كل اليمن، وتحديدا المناطق المهمة كمضيق باب المندب، ومناطق الثروات النفطية والغازية في المحافظات الجنوبية ومحافظة مأرب الشمالية. وكانت القوى الداعية لانفصال الجنوب من ضمن من تم دعمهم من قبل التحالف وتحديدا دولة الإمارات التي أوكل لها مسئولية العمليات العسكرية والسياسية في مناطق الجنوب. وقد تم دعم تلك القوى ضمن منهجية التحشيد الجهوي والمذهبي والسياسي التي تم اتباعها في مواجهة الحوثيين. في المقابل، أستثمر الانفصاليون ذلك الدعم لترسيخ وجودهم العسكري والسياسي في مناطق الجنوب. وبعد أن تم طرد الحوثيين من معظم تلك المناطق، تزايد نفوذ الانفصالين هناك وتحديدا في محافظات عدن ولحج والضالع، وتم تأطير هذا النفوذ بشكل رسمي عبر تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يهدف إلى الانفصال، بدعم ورعاية مباشرة من قبل دولة الإمارات. إلى جانب ذلك؛ تولت الإمارات إنشاء ورعاية قوات عسكرية ذات طابع جهوي في جميع المحافظات الجنوبية باستثناء المهرة، تحت مسمى النخب والأحزمة الأمنية، وأصبحت هذه المناطق خاضعة فعليا للسيطرة الإماراتية المباشرة. من جانبها لم تبد الحكومة السعودية أي مواقف رسمية معارضة أو مؤيدة للمجلس الانتقالي الانفصالي أو المشروع الانفصالي بشكل عام، وهي المواقف التي يمكن وصفها بسياسة الغموض المتعمد. ويمكن إرجاع إتباع تلك السياسة إلى عدد من العوامل قد يكون أحدها وجود أطراف مؤيد لفكرة الانفصال داخل النخبة الحاكمة السعودية، والتي ترى بأن اليمن الواحد هو خطر استراتيجي عليها، وأن من مصلحة السعودية إرجاع وضع اليمن إلى ما كان عليه قبل الوحدة. إلى جانب ذلك، ترى بعض الأطراف داخل النخبة الحاكمة السعودية أن تقوية الانفصاليين في الجنوب في هذه المرحلة يعمل على تشكيل حائط صد قوي أمام تمدد الحوثيين في مناطق الجنوب المختلف عنهم مذهبيا. وفي كل الأحوال قد لا يكون من مصلحة السعودية في الوقت الحالي الوقوف علنا ضد المشروع الانفصالي لأن ذلك الأمر سيحرمها من حليف محلي مهم وسيدخلها في خلاف مع الإمارات راعية الانفصال، وهي الحليف الوحيد المتبقي مع السعودية في حربها في اليمن، وإي خلاف مع الإمارات قد يؤدي إلى خروجها من التحالف. وحدوث أمر من هذا القبيل سيضع السعودية في مأزق حقيقي؛ حيث سينتهي التحالف بشكل فعلي، وسيوجد فراغ سياسي وعسكري في المناطق التي ستنسحب منها الإمارات، والتي تشمل منطقة الساحل الغربي ومعظم المناطق الجنوبية، وهو الفراغ الذي لا تستطيع السعودية ملئه بسهولة. من جانب آخر، لا تستطيع السعودية ولا الإمارات، الإعلان بشكل رسمي عن دعم الانفصال لأنهما بذلك سيتناقضان والهدف المعلن لتدخلهما في اليمن، والذي تم تحت مبرر الاستجابة لطلب الحكومة الشرعية اليمنية ومساعدتها على استعادة نفوذها في جميع مناطق اليمن، وتأييد الانفصال بشكل علني؛ لا يخالف التفويض الذي دخلت بموجبه الحرب بل أنه يخالف أيضا نصوص القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن التي تؤكد جميعها على وحدة اليمن وسلامة اراضيه. في مقابل كل ذلك؛ ليس من مصلحة السعودية الأنية والمستقبلية انفصال جنوب اليمن أو حتى ازدهار المشروع الانفصالي؛ فبسبب المشروع الانفصالي تعثر هدف السعودية من تدخلها في اليمن والمتمثل في القضاء على الحركة الحوثية أو تحجيمها، حين منع الانفصاليون من تحويل مدينة عدن إلى عاصمة حقيقية لليمن، ومناطق الجنوب كنقطة ارتكاز للحكومة الشرعية تنطلق منها لتقويض الحوثيين وهزيمتهم. وغياب عاصمة حقيقية ومنطقة ارتكاز لهذه السلطة حرمها من الوجود الفعلي فيما يسمى المناطق المحررة، ومن ثم تشكيل مؤسسات دولة حقيقية تشكل نموذج حي للسلطة اليمنية البديلة عن سلطة الحوثيين. وعلى العكس من ذلك؛ أصبح وجود هذه السلطة هلامي، ويعتمد على الدعم السياسي والمالي والدبلوماسي السعودي، ويعيش مسئوليها خارج اليمن، وتحديدا في العاصمة السعودية. واستمرار هذا الوضع على ما هو عليه يعني بأن الحوثيين لن يُـهزموا بل سيترسخ حكمهم في المناطق الشمالية، وهو ما سيظهرهم أمام العالم بالطرف الأقوى والمهم في اليمن، كونهم يسيطرون على الأجزاء المهمة منه بما فيها العاصمة صنعاء، ويحكمون الغالبية العظمى من السكان، في مقابل سلطة شرعية مهترئة لا وجود لها على الأرض، ومليشيات عديدة ذات أجندات متناقضة تسيطر على المناطق الخارجة عن سيطرتهم. وترسيخ الوجود الحوثي في الشمال يعني بأن السعودية هُـزمت في اليمن وفشل تدخلها العسكري، في حال قررت الانسحاب، وهو أمر غير متوقع، أو أنها ستستمر في حرب استنزاف فاشله تتضخم كلفتها السياسية والعسكرية والاقتصادية باستمرار. ولن يتغير هذا الوضع إلا في حال تشكلت سلطة يمنية بمؤسسات دولة حقيقية في المناطق الخارجة عن سيطرة الحوثيين، وهذه السلطة لن تتشكل بالشكل المطلوب إلا في حال تم إضعاف المشروع الانفصالي أو هزيمته؛ فوجود المشروع الانفصالي لا يمنع قيام سلطات الدولة اليمنية وحسب ولكنه يقوي الحوثيين بشكل مباشر او غير مباشر. فترسيخ المشروع الانفصالي بما يحمله من نزعات عنصرية تجاه الشماليين، يُـظهر الحوثيين وكأنهم المدافعين عن هؤلاء وعن كيان الدولة اليمنية بشكل عام. خاصة وأن الحوثيين يمارسون سلطاتهم في مناطق حكمهم عبر مؤسسات الدولة اليمنية التي استولوا عليها، وهو ما مكنهم من إدارتها بشكل أفضل عما هو عليه الحال في مناطق خصومهم، خاصة في الجانب الأمني. يضاف إلى ذلك؛ حالة التناغم الضمنية بين المشروع الانفصالي والحركة الحوثية في اكثر من نقطة وهدف؛ فالحوثيون ومنذ فترة طويلة يرسلون بإشارات كثيرة للانفصاليين بأنهم أقل الأطراف السياسية الشمالية حماسا للوحدة، وأن اهتمامهم هو السيطرة على الشمال، الذي يعتبرونه ميراثهم السياسي التقليدي. وهذا الأمر يجعل الانفصاليين وكثير من النخب السياسية الجنوبية بما فيها الرئيس هادي يفضلون أن يبقى الحوثيون مسيطرين على الشمال وممثلون لسكانه بدلا من أي قوة شمالية أخرى ذات توجهات وحدوية. ولكون الأمر على ما ذكرنا؛ فإن المشروع الانفصالي يساهم في إفشال السعودية لأنه يقوي الحوثيون ولا يضعفهم. فبقاء الحوثيين في الشمال، كما يريده الانفصاليون، يعد خطرا استراتيجيا على السعودية ليس فقط لأنهم مرتبطون بخصمها الرئيسي إيران، ولكن لأن سيطرة الحوثيين على المنطقة الرئيسية في اليمن ذات الكثافة السكانية الرئيسية (85% من سكان اليمن يعيشون في الشمال أو من أصول شمالية) يعني بأن السعودية قد خسرت أهم وأخطر منطقة من مناطق نفوذها. فالشمال هو المهم استراتيجيا للسعودية وليس الجنوب. إلى جانب ذلك ليس من مصلحة السعودية خلق كيان في الجنوب يتبع دولة الإمارات الراعية الحالية للمشروع الانفصالي؛ فهذا الأمر يعني بأن هناك طرف اخر ينافسها ويشاركها منطقة تعتبرها السعودية ضمن مناطق نفوذها الحصرية. وقبل هذا وذاك تدرك السعودية بأن الجنوب لا يمتلك المقومات الضرورية للانفصال؛ فإلى جانب أن الانفصال لا يمتلك شرعية قانونية ويتعارض مع قرارات مجلس الأمن، هناك معوقات ذاتية وموضوعية تقف أمام نجاحه، أهمها ضعف الهوية السياسية الجامعة للجنوبيين وطغيان الهويات الجهوية، وهو الأمر الذي يجعل من جنوب اليمن كتلة هشة لا يشبه كردستان العراق أو جنوب السودان. فهشاشة الهوية السياسية للجنوبيين تمنعهم من إنشاء قيادة واحدة تسيطر على الأرض وتكون قادرة على الدفاع عن نفسها ومنع الأغلبية الشمالية من اختراقها وهزيمتها، وهي الأغلبية التي لن تقبل بأن ينفصل الجنوب عنها، ناهيك عن التأييد الشعبي الجنوبي للوحدة، والذي ما يزال مهما، وإن لم يعد مسموعا بسبب الضجيج الذي يثيره الانفصاليون. ووفقا لما ذكر فإن المشروع الانفصالي ليس سوى مشروع فوضى ساهم ويساهم في تفكك الدولة اليمنية فقد ساهم بشكل مباشر وغير مباشر في صعود الحوثيين، ومنع السعودية من هزيمتهم. وخلق وضع سياسي وعسكري في غاية الصعوبة والتعقيد جعل السعودية تواجه خيارات صعبة وسيئة في مجملها؛ فهي لا تستطيع معارضة الانفصال ولا تستطيع دعمه، مثلما هي غير قادرة على الانتصار على الحوثيين أو الانسحاب من هذا المعركة التي أصبحت أشبه بمستنقع يزداد عمقا واتساعا يوما بعد آخر.
عبد الناصر المودع
كيف ساهم المشروع الانفصالي في إفشال السعودية باليمن؟ 849