سأكتب اليوم عن الشهيد، اللواء ركن صالح الزنداني،نائب رئيس هيئة اركان الجيش، ذاك الانسان الشهم والنبيل، الذي قدر له وبجهده وتعلمه وعلاقته وكفاحه، ان يدون قصة نجاح، تستحق ان تروى وتدون في سفر التاريخ الحديث، فحيثما ذهبت ومكثت فلا تجد غير السمعة الطيبة والاثر الجميل. لن احدثكم عن القائد العسكري،ولا عن رتبته، أو منصبه، أو فعله اثناء مهمة التحرير لمدينة عدن واخواتها المدن المحررة، فهذه الاشياء اتركها لزملاء ورفاق واصدقاء الشهيد الزنداني رحمة الله عليه؛ وانما أكتب هنا قصة نجاح دونها صاحبها بعرق، ودم، وصبر، وجلد، فأستحق ان يترك أثراً في كل موضع ونفس. فأفصح الخطباء النجاح، قولة سطرها نابليون بونابرت، وأجدها حاضرة الآن في قصة نجاح هذا القائد العسكري المحنك؛ فمن قريته الصغيرة "السرير" الرابضة في سفوح جبل جحاف، إلى عدن وشطآنها ورمالها وبحرها، كأنه ذينك المتتبع لمجرى النهر وصولاً للمحيط اللج الغزير.. ومن طفولة بائسة فقيرة في الريف، وحُرمت من حنان أبوة هاجرت خلف البحار، بحثاً عن الرزق؛ إلى فضاء المدينة الواسع والعامر بالتعلم والحلم والاغتراب الداخلي – أيضا- وبرغم قساوة الزمن أبى الفتى الريفي إلَّا ان يصمد ويصبر منياً ذاته بنيل الشرف، فالإنسان دون صبر سراج دون زيت، والإنسان دون طموح هو إنسان ميت وهو حيُّ يُرزق. حاك قصته البديعة والملهمة، بكد وصبر وشغف، فمن جندي عادي في جيش الدولة الوطنية الفتية، إلى طالب في الكلية العسكرية الدفعة الثانية منتصف السبعينات، إلى ضابط يشق طريقه نحو البروز والمجد، بدءاً من كرش والصبيحة، مروراً، في لودر وسقطرى وشبوة، وانتهاءً في صنعاء وعدن. ومن دائرة العمليات الحربية بوزارة الدفاع، كضابط ميداني انهمك برسم الخطط والخرائط؛ إلى طالب في أكاديمية فرونزا الروسية في هزيع الثمانينات؛ إلى مستشار عسكري لنائب الرئيس علي سالم البيض؛ إلى مُقعد جبروتاً وظلماً عقب حرب صيف 1994م. ومن عمليات الدفاع ثالثة، بعيد ثورة الضباط والجنود عام 2007م؛ إلى نائب رئيس شعبة؛ إلى نائب مدير دائرة؛ إلى مدير دائرة؛ إلى رئيس هيئة العمليات المشتركة؛ إلى أن رقي لمنصب نائب رئيس هيئة الأركان، منتصف العام 2017م. في خليجي 20 في عدن، تولى الإشراف المباشر على غرفة العمليات، وخلال أسابيع الدورة الرياضية خطف الأضواء نظير نجاحه في عملية التامين والمتابعة والتنظيم، لتنهال عليه المهام، ففي السنة التالية 2011م نجح مرة أخرى في إدارة العمليات الحربية ضد تنظيم القاعدة في محافظة أبين بقيادة اللواء ركن الشهيد، سالم قطن، قائد المنطقة الرابعة حينها، رحمة الله تغشاه. كان قائداً عسكرياً فذاً من الطراز الرفيع، وقبل ذا وذاك كان إنساناً محباً ومتسامحاً وبشوشاً وصادقاً، فعلى المستوى الشخصي كان رجلاً رائعاً، لطيفاً، وديعاً، وفياً، متواضعاً، صدوقاً، لا يضمر ضغينة لأحد. كما وفي بيته مثل عمله، فابتسامته لم تفارق محياه، وسلوكه مع أولاده وأقاربه هو ذاته مع مرؤوسيه وأصدقائه وكل من قابله، إنه وبكلمة وجيزة إنسانا مميزاً وناجحاً، وحرياً بالأجيال الحاضرة والقابلة ان يكون نموذجاً تقتدي به، فسيرته الزاخرة بالتواضع والكفاءة والصبر والإيثار والتعلم والاجتهاد، قصة نجاح وينبغي ان يتأسى بها.. إنَّه ذاك القائد العسكري الذي يحسب له صقل ذاته وبمهنية واحترافية قلما يُعثر عليها في هذا الزمن الفائض بالوضاعة والجهالة، فالزنداني من القادة القلائل الذين ارتقوا سلم المسؤولية، بجدارة واستحقاق ودونما محسوبية أو وساطة، فمثلما قيل قديماً: أتقن عملك تحقق أملك " وقد أحسن صنيعاً، حين اخلص لمهنته وشغف بواجبه. صديقي الرائع الصحافي الدكتور، علي منصور احمد، مدير التوجيه المعنوي للجيش في عدن، له الف حكاية وقصة وموقف مع الزنداني، تحدث لي بحرقة وحسرة، عرفت منه كم كان الرجل إنساناً نبيلاً وعفيفاً لا يعرف المكر، أو البغض، أو الكذب، أو الحسد. المنصوري الشاعر المرهف سرد علي قصته وزملائه مع القائد الزنداني، تذكرت وقتها حقيقة ان الانسان الحقيقي هو الذي لا يتباهى بشيء، فالمغرور أشبه بديك يعتقد ان الشمس تشرق كل صباح لكي تستمتع بصوته، وفق قولة مأثورة. كما وانتابني إحساس عميق بعظمة الشهيد الراحل الذي تحلى بمزيتين أصيلتين؛ الأولى في أخلاقه الرفيعة التي جسدها في عمله وسلوكه، وأظن ان صديقي الكظيم بذكره شميلة الأخلاق، ربما أراد القول إن ما غرسه فيه وهو ورفاقه وكل من تعامل معهم الزنداني أتي أُكله الآن، وبثمرة طيبة، وشجرة لا تهرم أو تشيخ. وحتماً ستبقى جذور الأخلاف مغروسة في عنان في السماء، فيما أزهارها وعطرها ناشرة أريجها في نفوس البشر وفي عموم المكان والزمان. إما الميزة الأخرى المحببة لصاحبي فهي أنه لم يسمح لقلبه مطلقاً كيما يتسرب البغض إليه، كسلاح لطالما استخدمه ضعفاء القوم. قبيل استشهاده وبمدة وجيزة، كان الزميل الخلوق النبيل " نبيل الجنيد " حدثني عنه، وكيف أنه يعاملهم كأب حنون على أولاده، وليس كقائد عسكري وجنود وضباط في الخدمة، قال لي الصحافي – الذي أصيب في انفجار الطائرة المسيرة – إنه دُهش من تواضع وبساطة الرجل الذي شغف بمرافقته وأخذ نصحه. أصدقكم أنني لم أحظ بشرف اللقاء به وجهاً لوجه، ومع ذلك كنت قد عرفته من زملائه ومن أترابه ومن مجايليه، كما وألممت بتفاصيل قصة حياته من خلال أُناس كُثر وعلى لسان زملاء وأصدقاء لم يبخسوا الرجل حقه، أذكر منهما الصحافيان الجحافيان " هاجع وخالد "، فضلاً عن أن قرية الشهيد محاذية لقريتي، هذا إذا ما قلت إن المدرسة الابتدائية التي تعلمت بها كائنة في "السرير"، مسقط رأسه، ومركز مديرية جحاف حالياً. بل وأكثر، فلقد كان قريباً إلى نفسي بقصة حياته الحافلة بالكد والجد لبلوغ المنتهى المشرف، إنه أفضل تجسيد للمثل الروسي الشهير: الجندي الذي لا يأمل أن يصبح يوماً جنرالاً، هو جندي خامل "، كيف لا وهو الذي نال الشرف الرفيع في حياته ومماته؟. ألم يقُل الحكيم هارون الرشيد قولته الشهيرة: الشرف يمنع صاحبه من الدناءة "ولهذا السبب الناس أحببت القائد الزنداني بكونه لم يفرط أو يرهن رتبته أو منصبه أو شرفه العسكري للشيطان ودناءته. نعم.. أحببت قصة كفاحه كيما يبلغ منتهى طموحه، فمثلما قيل إن التعلم يضاعف المواهب، والطموح لا يشيخ أبداً، والزنداني في حياته كان من هذا الصنف النادر، ولع بالمعرفة فحقق طموحه ونال رضا الله والناس، وحين أكثر من المعرفة زاد فعله وقل كلامه. فعادة ما تكون الثرثرة نتاجاً لقلة المعرفة، والعكس صحيح، إذ أن الصوت الهادر الصاخب دلالة على العقل الفارغ، أليس الصوت العالي من الطبل الفارغ الأجوف؟!.. ونعم، قصته استهوتني، فحياته كانت مثار دهشة وفخر، وموته كان ألقاً منيراً يروم إليه كل إنسان حُر وشريف، فيكفيه ان موته غيلة وخسة وعدواناً، ويكفيه زهواً وشرفاً انه مستقبلاً الموت لا مولياً ظهره له، ويكفي ان اسمه سيظل خالداً على مدى الأزمان، فأسماء الشهداء أخلد الأسماء. الله أحبه، حين أكرمه بصفات العظماء، ولأنه من الرجال الصادقين الصامتين، فما من صاحب أو قريب أو رفيق أو زميل إلَّا ويتذكر سيرته الحسنة العطرة، فيذرف دمعة أو يتضرع له بالدعاء، فكيف لا يحزنون وكيف لا يبكون؟ فالدموع ومثلما قيل هي مطافئ الحزن العظيم، وكيف لا يتضرعون لله تعالى كيما يتقبله شهيداً برفقة الأنبياء والصديقين والأتقياء؟ فهذا رسولنا وحبيبنا المصطفى قال: " استقبلوا البلاء بالدعاء". كلمة وداع.. وداعاً، القائد الإنسان أبا المعتمد، وصلاح، ومحمد، وأكرم، فما أوجعنا برحيلك المباغت، وما أحزننا بوداعك المؤلم؛ فكيف لا نحزن عليك وهذه الوجوه عابسة مكفهرة، وهذه المآقي نازفة، وهذه السماء واجمة كئيبة، وهذه قريتك ومسقط رأسك " السرير " باكية متلفحة السواد، وهذه " عدن " المدينة التي سكنت شغاف فؤادك تواريك ثراها بحزن أُمُّ مكلومة وفراق الأوفياء.. أقول لك وداعا وإن كنت أعلم أن مثلك لا يرحلون ببساطة وبسرعة، بل يبقون خالدين في نفوس وأذهان ووجدان الناس، فمن سوء حظ الرجال العظام هو أن التاريخ والناس لا يشعران بقيمتهم وفعلهم سوى بعد رحيلهم، وهذه مأساة حقيقية نراها ماثلة برحيلك اليوم. لا أعلم أكتب ودائعية مخضلة بدمعة حرة؟ أم مرثية عزاء ومواساة لأهلك وذويك؟ أم مرثية ودمعة لوطنك وشعبك؟ أم قصة نجاح أدهشتني وأجبرتني كي أشاركها الجميع؟. أصدقكم أنني لا أدري ما جدوى الكلام وما نفع الوداع وما قيمة المرثيات؟؟ ففي نهاية المطاف جميعها مجرد مفردات صاعدة من صدر كظيم لم يحتمل وقع الفاجعة الكبيرة وهاله المصاب الجلل والعظيم. والآن وبعد سرد ما في نفسي، ليس لي غير التذكير بحديث المصطفى عليه افضل السلام القائل : إنَّ العين لتدمع، وإنَّ القلب ليحزن، وإنَّا على فراقك يا إبراهيم لمحزنون، ولكن لا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا ". سأقول وداعاً أيها الإنسان الطيب الجميل ،وإنَّا على فراقك يا أبا صلاح والمعتمد ومحمد وأكرم لمحزونون، فنم قرير العين، وسلام على روحك وليسكنك الرب الفردوس الأعلى مع الصديقين والشهداء، وليلهم أهلك وذويك ورفاقك وصحبك الصبر والسلوان وحسبنا الله ونعم الوكيل آمين..
محمد علي محسن
الزنداني قصة نجاح مُشرِّفة 1276