لم تكن التكنولوجيا متوفرة مثل اليوم، هذا ما جعل الناس، قبل عقود، يتخوفون على تفسخ قيم أبنائهم إن ذهبوا بعيدًا عنهم. كانت المعرفة سطحية بكل شيء، تخيلوا دور السينما على أنها مكان لتسكع المنحرفين وأنها بؤرة لتفسخ القيم، ومع ذلك كان الكثير من أبناء القرية يذهبون للسينما خلسة من الكبار. أبي من الذين ارتادوها، أما أنا فلا أعرف شكلها حتى. رغم إن السينما كانت إحدى المواد التي درسناها، لكني نسيتها تمامًا ولم أعد أذكر حتى التعريف. أشاهد الأفلام بأريحية، في القرية حتى الأطفال يمتلكون الهواتف ويستطيعون الدخول إلى مواقع الانترنت. التفسخ من التربية ولا يُكتسب من مشاهدة فيلم أو امتلاك هاتف. في عهدي، أذكر أنهم كانوا ينظرون بلؤم لمن يذهب إلى الوكندة، نعم الوكندة كانوا ينظرون إليها كما ينظرون إلى السينما. صاحبي عنتر كان يذهب إلى السينما، أنا من الجيل الذي تلى عنتر ومع ذلك لم تعد هناك أي دور سينما في المدينة. في إحدى المرات ذهب عنتر إلى المدينة ليشتري "وزف وبسباس" من سوق الشنيني، السوق الشعبي الشهير، كان والده قد حذره ونبهه من "الصعاليك" الذين يتصيدون أبناء القرية ويسرقون أموالهم ويهربون، لكنه التقى بابن قريته وصاحبه "بجاش" وشخص آخر، أقنعوه بالذهاب معهم إلى السينما، لقد جلسوا بالمقاعد الحديدية في الصف الأخير، كانوا يشعلون السجائر بوقت واحد، هذه أعلى مراتب الانحراف التي وصلوا إليها أيام السينما، بين الفيلمين خرجوا وشاهدوا أمامهم سياحًا أجانب، رجالاً ونساء ببناطل بيضاء قصيرة، كانوا ينظرون إليهم بشده وانذهال، بجاش استفسر عن هؤلاء، فأجابه عنتر: شكلهم من حق رجال الدعوة! كانت الإجابة صادقة، لم يكونوا يعرفون شيئًا عن أحد. اليوم عنتر بحر في معرفة التيارات والحركات، ليس الإسلامية فحسب، قبل سنة اتصل بي شخصيًا يبحث عن كتب تتحدث عن الليبرالية والعلمانية، أما بجاش يقلب مزاجه بين 1500 قناة فضائية، قنوات الرقص الشرقي، وقنوات الإعلانات عن مقويات الجنس، وأحيانًا يعتزم الخروج أربعين يومًا مع رجال التبليغ. إدريس وسليمان، كانوا يرعون الأغنام، غير أنهما مشهوران بالنزق والمجازفة بخوض المغامرات، عندما كان الأولون يتحدثون عن رذالة الوكندات، إلتقط إدريس وسليمان الفكرة للذهاب إلى هناك، وسرعان ما ائتقلا إلى المكان، كانوا يقطفون القات عند الظهيرة ويتجهون إلى المدينة، لم تسعهم الأرض عندما رآهما أستاذ التحفيظ وهما في بوابة الوكندة، ناداهم وأشار: الله المستعان، شاقول لأبوتكم إنكم تدخلوا الوكندة تتصعلكوا.. كان ذلك قبل 15 سنة بالكثير، التقيت بهم قبل أسابيع وسألتهم إن كانوا يفعلون ذلك حقًا، رد سليمان: مو من صعلكة.. هو بوري مداعة.. عادوه ماكانش به حتى شيشة. في كل فترة؛ تخرج دعاية عن مكان ما أو وسيلة باعتبارها أداة لتفسخ القيم ومسخ الأخلاق، يضخمها الخوف الناجم عن قلة المعرفة، من لديه ميول انحرافيه؛ لا تغذيه السينما التي تعرض أفلاماً متناولة في أيدي الجميع غير أنها تسبقهم في العرض، ولا الذهاب إلى لوكندات رخيصة تعرض مباريات كرة قدم، المنحرف نقص في التربية ولن تستقيم أخلاقه بغيرها وإن رأيتموه يذهب للمسجد أو يساعد المحتاجين. خوف العديني غير مبرر.. يبدو أنه نسى أن الهاتف الذي يكتب به شذرات الخوف والغضب على السينما بإمكانه أن يعرض صور عراطيط وبضغطة زر.
سلمان الحميدي
عن جيل يرفض مغادرة مخاوف صنعها في الماضي 973