عامان من غياب الأستاذ/ أحمد قاسم دماج، السيرة المختلفة لضوء الايام . لا تفتقده فقط عائلته ومحبيه في هذه الحلكة شديدة السواد، بل تفتقده في الأصل البلاد كلها، لأنه كان احد ابنائها الاستثنائيين المعبِّر عن توقها الشديد للحياة تحت الشمس. قبل عامين كتبت، تحت تأثير رحيله، ما يشبه البكاء، ولان هذا البكاء لم يزل طريا في دواخلنا أعيد نشر هذا النشيج، لان شيئا لم يتبدد او يتبدل، فاحمد قاسم دماج لم يزل هو ذاته الضوء الذي نحتاجه. لو أن العمر امتد به قليلا هل كان سيفرد صفحة اضافية لسيرة اليمن، التي تتسرب من بين يديه، وتتبخر من حلمه ؟! أم أنه اختار الرحيل، حتى لا يرى موتا ناجزا للوطن، بسكاكين القتلة "المشحوذات" بعناية،على حجر الحقد الخشن.؟! اليمن انحفرت في وجدانه على هيئة روح كبيرة، وارتسمت بكل تفاصيلها بوعيه كقارئ متفحص لتاريخها البعيد، او باعتباره شاهد و فاعل في معتركات احداثها المعاصرة .
ثورة 48 كأولى الخضات الكبرى في هذه الروح، كانت تؤسس للخطوة الكبيرة على طريق المعاناة، التي قادته الى القلعة الحمراء في تعز (قلعة القاهرة) كرهينة (حول تفاصيلها الراحل "زيد مطيع دماج" الى عمل روائي رائد في السردية اليمنية المعاصرة) . الرهينة الطفل، الذي لم يكمل عقده الاول، اُخذ الى المدينة، التي اتخذها ولي العهد(احمد حميد الدين) آنذاك مركزا للحكم، حتي لا تتمرد أسرته على الأئمة، فتمرد الشيخ مطيع دماج، لأنه كان يبصر يمنا جديداً يتشكل في رحم الايام. وجاءت أحداث 1955 ليكون مبصراً لصراع السلطة داخل بيت الحكم، التي عجلت بتآكل مشروع الاستبداد الامامي . بعدها كانت مكتبة مطيع دماج والمد القومي وخطابه الثقافي والسياسي، ممرا واعيا قاداه للانخراط في حركة القوميين العرب اواخر الخمسينيات . كل هذا التراكم المعرفي وخبرة الحياة أصبحا تاليا المؤسسان الفعليان لوعي التمرد الذي طبع الشاعر الشاب بالفصاحة والتأثير، اللذان أدهشا "جمال عبد الناصر"،حينما زار اليمن في 1964،حين كان فقيدنا رقم فاعل داخل الصف الجمهوري، وموظفا شابا مرموقا (امين عام مجلس الوزراء في الجمهورية الوليدة) ،واحد النجباء المؤمنين بحتمية التحول، في بلد منسي يتحسس مكانه تحت الشمس . في عام عبد الناصر هذا، سيسجل لمدينة "جبلة" التاريخية استضافتها لمؤتمر "الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل"،حيث كان لإسهامات الراحل فيه،بمعية مطيع دماج الأثر الحاسم في انضاج الصوت الباحث عن الاستقلال الكامل في إطار الهوية اليمنية الجامعة. انقلاب الخامس نوفمبر1967،شكل التحول الصادم في جدار الحلم،وان كانت "ملحمة السبعين" للدفاع عن صنعاء والنظام الجمهوري، بواسطة العسكريين الشبان وابناء البرجوازية الصغيرة و الانتلجنسيا الثورية والطلاب والعمال قد خفف قليلا من صدمة الردة في بنية الحكم، غير ان احداث اغسطس 1968 برائحتها (المناطائفية) الكريهة ،عملت على تضييق الخناق على فعل التحول ودعاته السياسيين ومنهم فقيدنا الكبير، الذي اُعتقل برفقة كوكبة من المثقفين اليساريين والقوميين المناهضين لسلطة الانقلاب، بعد ان صار رقما صعبا في التنظيم اليساري الوليد (الحزب الديموقراطي الثوري) والذي مثل استخلاصا حيا لعملية المراجعات النظرية والفكرية للتوجهات السياسية لكثير من الحركيين القوميين . وبعيد خروجه من المعتقل،عمل وهو ومجموعة من المثقفين اليمنيين في الشمال والجنوب ،وفي رد على تباعدات نظامي الشطرين والتوترات المستدامة بينهما، الى الدعوة لتشكيل كيان نقابي موحد، للتعبير عن ارادة المثقفين اليمنيين في إعادة توحيد الجغرافيا، فكانت ولادة "اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين" في اكتوبر 1970 حيث كان فقيدنا ضمن الهيئة التأسيسية للمؤتمر التمهيدي للاتحاد مع مبصر اليمن وحكيمها عبدالله البردوني، والروائي الرائد محمد عبد الولي والشاعر عبدالله عبد الكريم الملاحي، والمناضل سالم زين محمد، والمثقف الموسوعي محمد عبد الواسع حميد،والشاعر علي بن علي صبرة، وآخرين هذه اللجنة وبعد توسع قوام اعضائها الى 28 شخصا تولت الاتصال والتواصل بسبعين اديب/ة وكاتب/ة يمني/ة، من صعدة "في اقصى الشمال " الى المهرة "في اقصى شرق الجنوب"، لتشكيل هذا الكيان الحلم،الذي أبصر النور ـ بعد مخاض عسيرـ في مدينة عدن، التي احتضنت مؤتمرهم الاول في فبراير 1974، لكن قبلها بأعوام ثلاثة وتحديدا في 15 ابريل 1971،أعادوا إصدار مجلة (الحكمة) باسم الاتحاد،بعد اكثر من ثلاثة عقود، من اصدارها الاول في صنعاء في ديسمبر 1938. ورأس تحرير اصدارها الجديد ولقرابة عشرين عاما، الاستاذ عمر الجاوي) رفيق العمر لراحلنا الكبير. على مدى سنوات السبعينيات،بين المؤتمر الأول والمؤتمر الثاني الذي انعقد في صنعاء في نوفمبر 1980، تبلور الشعار الرئيس للاتحاد، (تحقيق الوحدة اليمنية في الصدارة من مهام اجيالنا المعاصرة) والذي ظل صامدا حثى المؤتمر الخامس للاتحاد الذي انعقد في عام الوحدة 1990، حيث بدأت التحولات العميقة في بنيته وخطابه وحضوره في الحياة العامة. إلإذابة الواضحة للتناقضات المناطقية والايديولوجية والسياسية لمنتسبي الاتحاد، خلقت شرطا حيويا مهما لاستمرار الاتحاد قويا ومستقلا في قراراته، وحاضرا في المعترك الوطني، والذي عزز ذلك وجود شخصيات من الطراز الرفيع في قيادته، وعلى رأسهم "عبد الله البردوني "،الذي كان اول رئيس للاتحاد، حتى المؤتمر الثاني المنعقد في صنعاء 1980 حين خلفه في الرئاسة فقيدنا احمد قاسم دماج للمرة الاولى ولثلاث دورات حتى العام 1990. وعمل طيلة هذه السنوات ضمن فريق واحد،من مثقفين وكتاب سعوا بمواقفهم وكتاباتهم، الى بلورة خطاب تنويري، مهموم بوطن يحاول النهوض من ركام التخلف والعنف، على اساس المواطنة، وحرية التنقل والقول في الجغرافية الواحدة. وفي الوقت الذي كان نظاما الشطرين، يزيحا خصومهم بالاعتقال والتغييب والمطاردة، كان يجلس في اجتماعات الاتحاد المثقف الليبرالي الى جوار المثقف الديني، ليتدارسوا اوضاع البلاد واحوال مثقفيها، ومتابعة قضاياهم وشئونهم،لهذا كان الشاعر والكاتب والمؤرخ والروائي والمنظر السياسي، الذين لا تجمعهم الانتماءات السياسية الواحدة، يجمع بينهم الاتحاد ومشروعه الوطني، كما اراد المؤسسون . ولان النظامين،شمالا وجنوباً، كانا يجرمان العمل السياسي كلا بطريقته، الاول يحرمها تحريماً بائناً على قاعدة مقولة "الحزبية تبدأ بالتأثر وتنتهي بالعمالة "، والثاني بحصره ممارسة العمل في اطار التنظيم السياسي الموحد او الحزب القائد، فقد كان اتحاد الادباء والكتاب، اشبه بالملاذ الآمن للمطاردين والمشردين، الذين يعانون من تعسف الأجهزة،التي كانت تراهم في الشمال، معارضين يساريين مدعومين من نظام الجنوب، في الوقت الذي ترى اجهزة الجنوب في الصوت المرتفع الناقد، الذي يطلقه الاتحاد حيال التجاوزات، يمثل تشويشاً على التجربة الاشتراكية الرائدة في المنطقة". في هذه الفترة لا يذكر حضور اتحاد الادباء والكتاب في الذاكرة السياسية والثقافية في البلد المجزأ الا ويذكر التؤام (دماج والجاوي) بوصفهما اكثر المنافحين عن الوحدة والحريات، وكرسا كل جهودهما وكتاباتهما لإعلاء هاتين القيمتين في جغرافيا، تعاني من كل مشكلات العصر ( استبداد وتخلف وفقر). ومنذ العام 1990 وحتى العام 1997 قرر الراحل ان يبتعد قليلا عن الهيئات القيادية في الاتحاد، لكنه لم ينقطع عنه، فكان احد رواد مقايله، ملتحما بأعضائه من الادباء الشبان الذي مثل لهم "وانا واحد منهم" مرموزا روحيا لمشروع الخلاص. كنا نلجأ اليه حينما نقرأ وحينما نكتب،وحينما تريد إبصار دواخلنا متخففة من الغرور والادعاء. بواسطته احببنا المتنبي الذي كان يجد في شعره الحكيم ردودا شافية على أسئلتنا الوجودية، وبؤس الايام التي تتقاذف احلامنا. ومنه تعلمنا كيف نقرأ تاريخ اليمن بعيدا عن شطط العصبويين، وكيف نقرأ الحركة الوطنية من سير رجالاتها العصاميين، وليس من تجييرات الساسة وتحزبهم. احببنا قراءة الروايات وكتب الفكر الديني المستنير. غصنا معه في موضوع السرديات الكبرى في التاريخ الانساني. تقاسم مع الجميع طعامه وشرابه حتى وفاته، لم يتأفف من احد، حتى أولئك الذين أساءوا إليه لم يكن يراهم الا بعين المحب، اما اكثرهم غلا وحقدا ومرضا فلم يكن يبصرهم الا بعين المشفق. عاد الى الهيئات القيادية للاتحاد في المؤتمر السابع في ابريل 1997،في موقع نائب الأمين العام، حتى يعلم الجميع قيمة التواضع فموقع الرئيس ونائب الامين العام لم يختلفا لديه مادامت الرغبة في خدمة الاتحاد واعضائه هي الاساس وليس الطمع في الموقع . لهذا كافئه اعضاء المؤتمر الثامن ابريل 2001 بانتخابه بالإجماع عضوا في المجلس التنفيذي، الذي شكل امانته العامة برئاسة مجمع عليها للفقيد. وفي هذه الفترة شهد الاتحاد افضل حالاته في تملك المقرات وطباعة الكتب واعانة الاعضاء، وقد استند راحلنا في هذه الفترة على شخصيات قيادية فذه ومثقفة مثل المرحوم محمد حسين هيثم الامين العام ونائبه الدكتور سلطان الصريمي، ورئيس لجنة الحريات المرحوم زين السقاف. في المؤتمر التاسع 2005ستعمل السياسة نأيها المسموم في لحم الاتحاد، لإعادة تطويعه وتدجينه وكانت اولى خطوات ذلك إقصاء دماج وهيثم والصريمي من مواقعهما، غير ان فقيدنا لم يترك او ينقطع عن الاتحاد، فقد كان يحضر الى المقر ولم يتخلف عن اجتماعات المجلس التنفيذي،واسهم بفعالية في التحضير للمؤتمر العاشر،الذي انعقد في مدينة عدن في ابريل 2010،بعد أربعين عاما من احتضانها مؤتمر التأسيس، وستة وثلاثين عاما من المؤتمر الأول ، وعاد أعضاء المؤتمر مجمعين للتصويت لانتخابه مرة اخرى للمجلس التنفيذي، وكأنهم يريدون ان يقولوا للجميع انهم يصوتون للقيمة الفضلى في تاريخهم الجمعي، ومرموزهم الفذ احمد قاسم دماج. غير انه لم يقبل في تسلم أي موقع قيادي في هيئاته. ومرت أعوام ستة،ودخل الاتحاد في شتاء الانقسام والتنرر كحال البلاد، لكن الاتحاد لم ينطف بداخل فقيدنا، فقد كان يتصل سائلا ومعاتبا و "معرعرا " ايضا،عن الحال الذي وصل اليه هذا الكائن الرمزي الذي جمع ذات يوم احلام كل اليمنيين. انه الضوء الذي قد يتوارى كصورة امام العين، لكنه بالتأكيد ساطعا كسيرة داخل فعل التأريخ الحنون على الاستثنائيين من البشر،الذي كان احمد قاسم دماج احدهم. لروحك السلام يا سيدي.