بمناسبة يوم اللغة العربية أحب أن أوضح أني مغرم باللهجات المحلية والقروية جداً، وأتضايق عندما يتحدث إليَّ أحدهم بالفصحى، ويأتيني شعور غريب أن هذا الرجل يكذب، ويقلد، ومش ناوي على خير أبداً، مع أنه ربما يكون مسكين الله وتائه مثلنا. أستغرب جداً ممن يقول لي إنه يتحدث هكذا طول اليوم، أشفق عليه وانتظر متى "بيخلص شحنه"، ويطفي الراديو اللي جواه، هل هو إنسان آلي؟ أنا لا أسخر بقدر ما أستغرب، ما الذي يجبر أحدهم على الحديث بلغة لم يعد لها وجود في حياة الناس؟ أخاف "يرتبش" المجتمع كله، ويقوم الناس كلهم يشتغلوا "روادي" جمع راديو، ويتركوني لحالي أتحدث بلهجتي الغارقة في القروية. بعد أن جاءت الدراما السورية، وشاهدت الجوارح والكواسر والفوارس- مش مهم الترتيب - عدت للسخرية من الدراما المصرية المغشوشة حتى أنهم لا يتحدثون الفصحى ولا بنت خالة عمة جدتها، إلا أن أبطال الدراما السورية لغتهم فصحى ومقبولة على مسمعي، وليست كلغة خطيب الجمعة الذي ينبري قاتلاً نفسه فصاحة وبلاغة وسجع وجناس وطباق، ونسي أن حضرات المصلين من أمثالي نفهم بلدي وما يعجبناش التقليد. لا أقلل من شأن الفصحى أبداً، لكن التخاطب بها ليس فيه روح، في الخطاب أنا أريد أن أفهم الخلاصة والزبدة، ولا يهمني، الرفع، والضم والكسر، والتقديم، والتأخير. أحتاج خطاباً يقدر وجودي أنا، ويخاطبني أنا، لا يتحدث إلى الفرزدق وجرير وشريح القاضي. أحب العربية جداً فهي لغتي وبها أستطيع التخاطب والتفلسف والتفكير. فمن الصعب التفكير بلغة والكتابة بلغة مغايرة، فالكتابة هي التفكير في أبسط المعاني. إذا كانت كذلك فلماذا يكتب الناس ما لا يفقهون؟! ليس كل الناس يفكرون بنفس الطريقة، ومنهم من لا يستخدم عقله فقد فكر له شيخه، وقائده، وأبوه، وأستاذه، ورب عمله، وإمامه، وهؤلاء يكتبون ما يُملى عليهم بخط واضح، ولذا هم في وادي وما يكتبونه في وادي أخر. كانت إحداهن تكتب بلغة سلسلة، وسهلة، ومشبعة بالحيوية، والمصطلحات الريفية التي لا يُعاب على الكاتب استخدامها لتزيين بعض النصوص، وضعت لها تعليقاً في العام: "استمري هذه هي اللغة الحية التي يفهمها القارئ"، فقالت: " أنت تريدني أن أكتب نصوص بلدي وأترك الكتابة بالفصحى، تريد أن تستأثر بالكتابة والجمهور لنفسك." قلت :" معاذ الله"، في المحصلة طحسن أو طحست واختفت وكانت مجرد إسم وهمي من عدد من أسمائها الوهمية التي تستخدمها لأغراض ربما لوجستية، وعلى قول أصحاب البلاد "سكهنا عمتي عيشة وكدره"، وهذه أيضاً سكهنا وهمها، وأيضاً سكهنا عدم تطور لغتها، فاللغة تكبر بعمر الشخص فليس من المعقول أن يكتب الشخص في الثلاثينات مثلما كان يكتب في العشرينات من عمره، فاللغة تكبر وتتطور بتطور المعارف، يالله ما علينا من الناس. واللهجات الدارجة في اليمن ليست بذلك الاختلاف الصعب، فهي مفهومة عند الكل، يقع البعض في السخرية القروية من بعض اللهجات، والسخرية من مخلفات السياسية ولا علاقة لها بالتنوع الثقافي في المجتمع اليمني، ومادام أن للكلمات جذور من العربية فهي لهجات للغة واحدة، وما أحلانا ونحن نتحدث بلهجاتنا، دون المساس بجذورها العربية الأصيلة، فنشتق من الكلمات ما يساعدنا على الفهم، والإدراك، لا ما يحجب عنا فهم بعضنا، وإدراك ما وراء السطور. لحجي، حضرمي، صنعاني، تعزي، مأربي، جوفي، شبواني، مهري، سقطري، بيضاني.. كلها لهجاتنا ومحل تقديرنا، وحبنا، واحترامنا، فكلها لهجات تدل على سلوكنا وقيمنا، وتعاملاتنا اليومية، ولا أحب إلينا نحن من سماعها كلها في نفس الوقت. الفضول والمحضار، أيوب وأبو بكر، يقع عليهم الإجماع في ترديد أغانيهم وكلماتهم عند مختلف المكونات المجتمعية المتنوعة بين الساحل والجبل، حتى لهجة الرئيس السابق علي صالح كانت محل فهم مختلف المحافظات، ويبدو أن لهجة الرئيس هادي ستصل إلى نفس المستوى مع قلة خطاباته مقارنة بسابقه، والذي خاطب الناس بما يفهمون، كما لم يفعل غيره من معارضيه الذين حشروا أنفسهم في جهات ومحافظات دون أخرى. وأخيراً اللغة العربية في يومها تمثل إشكالية واقعية ! يا أنها لا تملك من المفردات ما يجعل أهلها يفهمونها بسلاسة، يا أن أهلها أصابتهم العدامة فلا يفهمون لغتهم، وإذا فهموا تعالوا عن الفهم لأسباب يطول شرحها، هذه اللغة القادمة من حقول وجبال وسهول اليمن والمنتشرة في العالم اليوم تعاني كما تعاني اليمن اليوم، لا أهلها فهموها ولا حتى أصدقائها وأعدائها فعلوا ذلك، والدليل القريب هناك من يريد فرض السلام بالقوة في الحديدة كما فرضه في صنعاء أيام السلم والشراكة وفرضه في عمران من قبل، فهل هذا الذي يسمونه سلام هو السلام الذي تدل عليه اللغة العربية، أم أنه سلام دلالته أخرى وغير موجودة في لغتنا؟ الحال من بعضه يا يمن ويا لغة والسلام.
فيصل علي
في يوم العربية.. لهجاتنا المحلية هي الأفضل! 964