ودعٓنا الأخ الصدوق، والأب الحنون، والمعلم المربي، والمناضل الجسـور الشيخ المجاهد/ محمد بن حسن دماج - رحمه الله - بعد حياة طيبة حافلة بالعطاء، مليئة بالإنجاز، مفعمة بحب الوطن والناس؛ أسأل الله أن يغفر له وينزل على روحه شآبيب رحمته وواسع مغفرته، اللهم أكرم نزله ووسع مُدخله، وأسكنه الفردوس الأعلىٰ مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. لقد كان فقيد اليمن الكبير الشيخ محمد بن حسن دماج علٓماً لا تخطئه العين، رجل الدولة وشيخ العشيرة، شهما كريما، صاحب حمية ومروءة، ودودا إذا اقتربت منه، ناصحا إذا طلبت مشورته، ذا نجدة لمن استعان به، غيورا من أجل دينه ووطنه، يُحسن تمثيل الدولة، ولم تزده المناصب والمواقع القيادية - التي تبوّأها - إلا تواضعاً. رحم الله الشيخ الحبيب محمد دماج: لهفي عليه، وحزني على فراقه، ما أروع مجالسته! وما أحلى مذاكرته! وما أطيب مجاورته! فقد كان خفيف الظِّل، متعدد المواهب، لطيف المعشر، وعذب الحديث؛ صاحب دُعابة، عرفته عن قرب في السفر والحضر، في اليمن وخارجه: يقرئ الضيف، ويجود بما في يديه، ويسارع في الخيرات. كان - رحمه الله - ظريفاً.. سمحاً.. متواضعاً.. خدوماً.. عابداً.. عالماً.. مثقفاً واسع الإطلاع، خبيراً بالأعراف والأسلاف والعادات والتقاليد، مُلماً بأسماء المدن والقرىٰ والسهول والجبال والوديان، وله حافظة بالقبائل وتفرعاتها، وهو أيضاً صاحب حجة وحكمة ورجاحة عقل، قوي الإيمان، نافذ البصيرة، لا تزيده الخطوب إلا صبراً وثباتاً؛ لا يتشاءم، بل ينظر إلى المستقبل بتفاؤل، يعني ما يقول وما يفعل، (واثق الخطوة يمشي ملكاً!!) لقد كانت بدايات نشأته الطيبة، وتربيته الصالحة، مؤشراً لحياته وخاتمته، فقد كان قريباً من العلماء، ورافق الكثير من الدعاة الأعلام أمثال الأستاذ/ عبده محمد المخلافي، رحمه الله، وكان يتردد على مجالس الذكر والعلم أمثال مجالس الأستاذ العزي السماوي في تعز رحمه الله، وكان له حضور وتأثير وتأثر عند المشايخ والأقيال، فلا تكاد تخلو منه مجالس الشيخ/ عبدالله بن حسين الأحمر، رحمه الله، وغيره من مشائخ اليمن المشهورين، ولاسيما في المواقف الكبيرة والحوادث التي يتداعىٰ لها ذوو الرأي وأهل الحل والعقد.. في سبعينيات القرن الماضي كان أحد أعمدة وقيادات هيئات التعاون الأهلي التي حملت على كاهلها إنجاز الكثير من المشروعات التنموية والخدمية؛ عندما كانت الدولة تعاني شُحّ الإمكانات، وجهوده في هذا الميدان - مع غيره من المؤسسين - مازال خيرها ونفعها حتى اليوم. في مجلس الشعب التأسيسي مثّـل ثنائياً رائعاً مع رفيق دربه الأستاذ/ عبدالسلام العنسي، رحمه الله، وفي العمل البرلماني كان صاحب حركة دؤوبة وتأثير فاعل، وعزيمة لا تعرف اليأس والملل. لقد تاقت المناصب الرسمية للشيخ الأستاذ/ محمد حسن دماج، ولم يطلبها أو يحرص عليها؛ لكنه ملأ الكراسي التي قعد عليها محافظاً في: ذمار وصعدة والمحويت والبيضاء وصنعاء والمهرة وعمران، وتولىٰ وزارة الإدارة المحلية، وعضواً في مجلس الشورىٰ، وعمل نائباً لرئيس اللجنة العليا للانتخابات؛ فأبلىٰ فيها بلاءً حسناً فكان كالطود الشامخ لا يغريه الترغيب ولا يخيفه الترهيب، ولا يثنيه عن قول الحقيقة لومة لائم!! وفي العمل السياسي ما كان لشيخنا الحكيم البارع إلا أن يتصدر المشاهد والمواقف، فعند تأسيس حزب المؤتمر الشعبي عام 1981م وفي انتخاب أعضاء اللجنة الدائمة حصل على أعلىٰ أصوات المؤتمر العام، وبعد التعددية السياسية كان أحد مؤسسي التجمع اليمني للإصلاح وفاز بعضوية مجلس شوراه، وتم اختياره عضواً في الهيئة العليا للإصلاح حتى وفاته رحمه الله. ولا أنسى أراءه السديدة ونظراته البعيدة، وحرصه الدائم على المصالح العليا للوطن، وبحثه عن الحلول للمعضلات المعقّدة، ومرونته في التعاطي مع القضايا الخلافية من غير خوٓر أو تهور، وعندما بدأ الحوثيون افتعال المشكلات في محافظة عمران سارع بتقديم استقالته لرئيس الجمهورية حتى لا يُبقي مبرراً للفوضى وإسقاط الدولة؛ ولكن الأخ الرئيس لم يقبل استقالته إلا بعد أن وقع الفأس في الرأس، عندما غلبت الحسابات الخاطئة على المصلحة الوطنية فتجرع اليمنيون السُمّ - وما زالوا - بسبب الإنقلاب على الدولة والسيطرة بالقوة والعنف على مقدراتها ومؤسساتها، ومصادرة الحريات وانتهاك الحقوق لتدخل اليمن في دوامة العنف الذي أذاق الشعب اليمني العلقم، ولله الأمر من قبل ومن بعد!! عُرف الشيخ/ محمد دماج غيوراً على دينه، محباً لوطنه، وكان شجاعاً لا يهاب المنايا، وله مواقف كثيرة لا يتسع المقام لذكرها هنا. كان الشيخ/ محمد حسن دماج، سهلاً قريباً، لا يشعر القاصي والداني بأي حواجز بينه وبينهم، وكان قلبه معلقاً بالمسجد، وكم كنّا نسعد برؤيته مداوماً على الصلاة وتلاوة القرآن في مسجد عمر بن عبدالعزيز غرب الروضة على الرغم من بعد المسجد عن سكنه، يصغي لمن حوله من المصلين، ويصطحب إلى مائدته من يتوسم فيه الخير والصلاح من عامة الناس أو خاصتهم، وهناك في منزله الجميع على قدم المساواة في الإكرام والاحترام. ولابد لي أن أذكر هنا شيئاً لا يتوقعه الكثيرون وربما لا يصدقونه عن الشيخ/ محمد دماج- رحمه الله- فقد كانت تمرّ به ظروف صعبة لا يجد فيها ما ينفقه على أهله وضيوفه، فيضطر أن يستقرض قيمة المصروف الضروري للبيت، بينما ينظر الناس إلى قٓـيافٓـته وجنبيته وسيارته ومرافقيه فيظنونه مليئاً تجري النقود بين يديه!! لم يتخلف الشيخ دماج عن الإسهام في أعمال الخير من خلال دعمه للجمعيات والمؤسسات التي ترعى الأيتام والفقراء والمساكين، أو تلك التي تهتم بتعليم القرآن الكريم والسنة النبوية وعلومهما، فكان من مؤسسي الجمعية الخيرية لتعليم القرآن الكريم، ورئيساً لفرع الجمعية في محافظة صنعاء، تقبل الله منه وجعل ذلك في ميزان حسناته. الحديث يطول عن فقيدنا العٓـلٓم/ محمد حسن دماج، لكني في هذا المصاب الجلل، أذكر الخاتمة الحسنة التي نالها، فحياته الحافلة بالخير والعطاء جعلته مستحِـقاً للتكريم والاحترام وليس السجن والإهانة، ولكن سوء التقدير وعدم التوفيق جعل الحوثيين بعد اقتحامهم لصنعاء يخطفون الشيخ الوقور - وقد شارف على الثمانين من عمره - ليقذفوا به في غياهب سجونهم السرية، وعرّضوا حياته للخطر، وأخفوه عن أهله وأولاده، وماتت زوجته وهو في السجن ولم يسمحوا له بتشييع جنازتها، ومن المفارقات أن أحد المفرج عنهم أخبرني أنه عندما التقاه في السجن وجده جبلاً راسياً، باسماً ضاحكاً، فأخذ الشيخ محمد دماج يُسٓرِّي عنه ويخفف من معاناته بالدُّعابة والنكتة، وكأن شيئاً لم يكن!! رحمك الله يا شيخ محمد دماج، ها أنت تبتلٓىٰ بالسجن والإخفاء من أجل دينك ووطنك وعدم رضاك بالبغي والعدوان، فتسنّمت شرفاً إضافياً، ونُـلْـتٓ وساماً مستحقاً، وعند الله تجتمع الخصوم، وأسأل الله أن يكتب أجرك، ويرفع قدرك، ويعلي منزلتك في الفردوس الأعلىٰ. اللهم أسألك أن ترحم حبيبنا محمد بن حسن قايد دماج، وأن تجزه بالإحسان إحساناً، وبالسيئات عفواً ومغفرة ورضواناً، اللهم اقبله في الصالحين، واحشره في المهديين، واجمعنا به في جنات النعيم، مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك شيخنا العزيز لمحزونون. " إنَّا لله وإنا إليه راجعون".
زيد الشامي
الرحيل الحزين للشيخ محمد حسن دماج 1214