قبل ما يزيد على عقد من الزمن، كان اليمنيون يستغربون من تلك الصور التي تردهم عبر وسائل الإعلام المختلفة من القارة السوداء لأطفال في عمر الزهور، وهم حفاة عراة يحتضرون جوعاً.. وكان الكثير منهم يتساءل: إلى هذا الحد فقدت الإنسانية ضميرها؟ ومع أن هذه الصور حُفرتْ حفراً في الذاكرة الجمعية للشعب اليمني الذي تأثّر بها، وأبدى تعاطفاً كبيراً معها؛ إلا أنَّ إمكانية تكرار هذه الصور في بلاد اليمن السعيد كان أمرًا مستبعدًا في الأذهان، حتى مع وجود الفقراء الذين يلجئون إلى براميل القمامة للبحث عما يمكن أن يبعد عنهم شبح الجوع، فقد كانت تلك حالات قليلة، وكان الناس في الأعم الأغلب يعيشون عيشة الكفاف (مستورين) على أمل أن يكون الغد أفضل، خاصة وأنَّ مؤشرات التنمية تبشّر بخير لا محالة قادم، فاليمن غنيٌّ بثرواته، ويمتلك من عوامل الرفاهية والرخاء الكثير والكثير. واليوم.. وقع مالم يكن في الحسبان.. وأصبح لليمنيين حيّزا في ألبوم تلك الصور الجائعة.. التي كشفت في كثير منها عن أطفال يئنّونَ تحت مطارق الجوع، يتلفتون يمنة ويسرة وليس إلا الفراغ القاتل، والسكون الذابح، ومن المهم هنا التأكيد على أنَّ جائحة المجاعة أكبر بكثير مما تتحدّث عنه القنوات الفضائية، بل إنَّ هناك قصصا يتناقلها الناس عن مآلات كثير من الأسر في مطاحن الجوع تكاد لا تصدّق، وإذا كان الإعلام قد ركّز في كثير من تناولاته على الجوعى في محافظة الحديدة مما أعطى انطباعا بأنه محصور هناك ليس إلا؛ فإن الحقيقة الذابحة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن اليمن من أقصاه إلى أقصاه يعيش مجاعة خانقة، وخاصة في تلك الأرياف النائية التي لا تصلها المساعدات، وإذا وصلتها فإنَّ هناك اعتبارات غير عادلة تدخل في عملية التوزيع من قبل القائمين، في ظل غياب كافة أنواع الرقابة والمحاسبة. لقد وصل الحال بكثير من الأسر اليمنية إلى أن تُغلق أبوابها منتظرة الموت جوعا بعد أن نفد كلُّ ما لديها من طعام، وقد تناقلت الأخبار كثيراً من حالات الموت جوعاً في الريف وحتى في المدن ليس فقط في محافظة الحديدة وإنما في كل المحافظات اليمنية تقريبا، ناهيك عن أخبار الذين يتساقطون صرعى في الشوارع والطرقات كل يوم بسبب الداء العضال.. داء الجوع. وفي هذا الإطار المخيف تبرز صور الأطفال اليمنيين الجوعى، الذين يتخطَّفُهم الموت هنا وهناك لتمثّل قرارة الجرح، وذروة الوجع.. لقد كان أحرى بهؤلاء الملائكة أن يعيشوا حياةً هادئة مطمئنّة، يطوفون بأجنحة البراءة في ملاعب الصبا، ويزينون صباحاتهم برائحة الأقلام والدفاتر، وأناشيد طابور الصباح.. لقد ضاع كلُّ ذلك، وتحوّلت هذه الفراشات البريئة إلى مجرّد صور مفجعة مبكية.. فاقت تلك الصور التي كانت تأتينا من راوندا وجنوب إفريقيا.. والأدهى وجعاً من ذلك؛ أن يأتي من يستثمر هذه الصور في سلوك مقزّز ومجرد من الإنسانية، لا تعريفا بمأساة ذابحة، وإنما كأداة حقيرة لتحقيق نصر إعلامي عابر، أو مكسب سياسي تافه ليس إلا.. إنَّ هذه الطفولة المهدرة المغدورة ستظل لعنة تلاحق ليس فقط من كان سببا في تعاستها ووأدها، بل وحتّى أولئك الذين اختلّت قواعد المنطق وموازين الواقع لديهم، فكانوا سبباً للجوع مع أنه كان يفترض بهم أن يكونوا سبباً للإغاثة، وكانوا سكينا في يد الموت مع أنه يُفترَضُ بهم أن يكونوا طريقا للحياة، أو أولئك الذين أهمّتهم أنفسهم، فتحوّلوا إلى تجار حروب، يسطون من مواقعهم على أقوات الجائعين، ويخزنونها في بيادرهم لتفوح بفسادها ضمائرهم المتعفّنة. لكم الله يا أطفال اليمن
عبد المؤمن ميسري
أطفال.. في حدائق الجوع 899