حين أشرق فجر المسلمين على الأرضِ حضارة ورقيًّا؛ كان النبي محمّدٌ يولد فيهم كلَّ يومٍ عزّة وكرامةً وعنوان وجود. كان يولد في حلّهم حبًا وتعاوناً وعدلا ومساواة وتسامحاً.. وكان يولد في ترحالهم غيوث إرشاد، وفتوحات هداية، أوصلت أنوار الإنسان الكامل إلى مشارق الأرض ومغاربها. كان يولد في صغيرهم فطرة سليمة، وطفولة مغمورة بجمال التربية وحسن التنشئة، ويولد في فتيّهم طوحا إلى حمل رسالة السماء، وبناء الوطن، واستمرار الحياة، وكان يولد في شيوخهم حكمة بالغة وكفا حانية، ترمِّمُ ما تساقط من بناء الواقع، وتصلح ما اعوجّ من نتوءات الطريق، وتبلسم القلوب مما يصيبها من الأدواء والعلل. كان يولد في نسائهم عفّة وطهارة وحشمةً وإخلاصًا، وفي رجالهم كرامةً وعنفوانا وفداء للحق القائم فيهم والقائمين فيه.. كان يولد كلَّ يوم، ويحتفون بهذا الميلاد على مدار الساعة إنسانية تملأ الدنيا نورا وعدلا، وتعطي للحياة مشروعيتها في أن تكون نزهة جميلة في ظلال الله مهما أصابها من مرارة العيش واعتورها من نفحات الشر.. كان محمّدٌ حاضرًا فيهم أبدًا.. يجلسون إليه في خلافاتهم، ومشاوراتهم في كل شئون الحياة، ويقدّمونه في مناشطهم المختلفة تعليما وبناء وحكما، ويدعونه في كل مناسباتهم الفرائحية، ويسألونه إذا ما أشكل عليهم مشكل أو حزبهم أمر، ويهرعون إليه إذا أحاطت بهم نائبة، ويصطحبونه معهم في معاركهم، فوصل فيهم إلى بلاد الأندلس، وطاف معهم بلاد الهند والسند، وتعرّف بهم على الأمم والشعوب، ووصل من خلال تجارهم الفضلاء إلى بلادِ شتّى أخلاقا فتحت القلوب قبل البلاد، فدخل الناس في دين الله أفواجا. وهاهم اليومَ يحتفون به يومًا واحداً في كلِّ عام.. يحتفون به مولودا ليوم واحد، ثمَّ يحملونه نعشًا في قلوبهم بقية أيّام العام. يحتفون بميلاده، وبلادهم مثقلة بالذل، مشاعًا للأعداء، كريشة في مهبِّ الريح.. لا تملك من أمرها شيئًا.. يحتفون بمولده يومًا، ويجّرعون بعضهم بقية أيام العام الأدواء والأسقام والموتَ الزؤام.. يحتفون بهِ عزيزًا.. وهم في قعر المذلّة، يتساقطون كتساقط الفراش في النار. ويحتفون به قويّا وهم أضعف مَن يمشي على اليابسة، تتخطّفهم سهام الموت من كل صوب، وتصفعهم رياح الردى في كل منحى. ويحتفون به هاديًا وهم متعلقون بأستار الضلالة شرقًا وغربًا، يؤمنون بلات الشرق وعزى الغرب أكثر من إيمانهم بالخالق جلَّ وعلا. ويحتفون به رسول المحبّة وهم يتساقون كؤوس العداوة والبغضاء، ويديرونها حربا ضروسًا فيما بينهم، تأتي على الأخضر واليابس، وتستزرع عواصف الثارات وبراكين المهلكات. لقد مات محمّدٌ في قلوب هؤلاء رحمه، وفي عقولهم بصيرة، وفي سيوفهم حدّة ومضاء، وفي حياتهم فاعلية وبقاءً. ماتَ فيهم محمد الذي يأخذ بأيديهم إلى مسارح النور ومنابر الكرامة، ويعلن فيهم انتصار المحبّة على كل أشكال القبح، ويرتقي بهم إلى معارج التميّز حيث يحضر الإنسان بمبادئه، ويشرق بقيمه، وينال بسمو روحه درجات المقربين البررة، وبقي فيهم محمد الذي يعرفونه يوما في العام نوما وكسلا وتخلفا عن الوظائف العامة والخاصة، وتهربا من أداء الواجبات والحقوق. إن محمّد -وهو الرسول الأجمل، والإنسان الأكمل- لا يسرّه أن يحتفل المتخمون بمولده، والفقراء يئنون خلف الأبواب الموصدة جوعا ومسغبة، ولا يجدون ما يسدّون به الرمق، ويصدون به غائلة الجوع. ولا يفرحه أن تلتهب المنابر بالخطب الرنانة والقصائد العصماء وبيوت المسلمين مكتظة بالمآتم، وشوارعهم بالجنائز، ومقابرهم بالضحايا الأبرياء.. كيف لمحمّد أن يفرح هذا اليوم، وهو يرى أمته التي هي خير أمة أخرجت للناس تتسوّل اللقمة، وتستعطي الرداء، وتتقي عدوّها بعدوّها، وتهوي في مدارك الهزيمة في كل معاركها المعلنة والخفية، وتقدّم أبنائها وقودا لبغضاء ليس لنهايتها أفق، وتأكل من ثدييها أمام شبح الجوع.. كيف له أن يفرح في يومٍ يحيونه فيه مظاهر كاذبة، واحتفاءات زائفة، ويميتونه بقية العام هويّةً ووجودا. إنه لا يريد أن يكون في قلوب أتباعه يوما زائفا كيوم فالنتاين أو بابا نويل أو.. أو.. إنه يريد أن يكون كينونة مستمرة تستعصي عن الغياب، وروحًا خالدة تصنع من جموع البسطاء سدنة للإنسانيةً، وشمسا أبدية تشرق في كلِّ أرجاء المعمورة حقّا وعدلا ومحبّة وكرامة.
عبدالمؤمن ميسري
محمد الذي يولد في العام يوما واحدا 869