منذ ثلاث ساعات وأنا أقف كالأبله قبالة الورقة. في يدي القلم، وأمامي البياض المُسطَّر. ولا فكرة لديَّ تصلح موضوعاً للكتابة. أُقلِّب الأسماء والأشياء والصفات وعشرات الكلمات دونما جدوى، كأنَّني أضرب أخماساً في أسداس، فلا أحصل على أية نتيجة، لا حسابية ولا كتابية. قرأتُ مرةً لكاتبٍ كبير نصيحةً أسداها للكُتَّاب الهواة والصغار من أمثالي، بأن يتجنَّبوا اغتصاب الأفكار أو إقحامها في غير مواضعها لمجرد إشباع الرغبة في الكتابة. فاِنْ لم تَنْسَقْ الأفكار لديك وتتَّسِق عندك، فتوقَّف عن المحاولة المستحيلة. ومنذ أيام فوجئتُ بأحد كَتَبَة المواقع الاليكترونية المنتشرة هذه الأيام كالبكتيريا، يطير فرحاً لأنه نشر في تلك المواقع أكثر من ألف مقال خلال أقل من عام! من يستطع الحساب يخبرني: كم مقالاً سفحَ هذا الشخص في اليوم الواحد؟ يا الهي، هذا عدد كبير لم يبلغه آرثر سالزبورجر ولا محمد حسنين هيكل على هذا النحو القياسي طوال حياته الصحافية كلها! وأذكر زميلاً -قبل أكثر من ثلاثة عقود- كان يأتينا يومياً في مكاتب الجريدة، وفي حقيبته عشرات المقالات والتقارير والاستطلاعات والمقابلات، يعرضها على مسؤولي الأقسام المختلفة، بحسب مبدأ العرض والطلب: مقال للقسم السياسي، تقرير للاقتصادي، استطلاع للثقافي، مقابلة للرياضي، وهكذا دواليك! وكان أحد الزملاء القدامى يتفجَّر كتابةً على نحوٍ هيستيري يومَيْ الخميس والجمعة. كان مضغ القات أيامها مسموحاً فقط في هذين اليومين (في الجنوب قبل الوحدة) كما نعرف. فاذا به يأتينا صباح السبت وجعبته ممتلئة بما سطَّره قلمه (أو بالأصح: بما سطَّره قاته!) من كتابات في شتى المجالات.. من الصراع السياسي في الشرقين الأقصى والأدنى.. إلى تجارة المخدرات في آسيا وكولومبيا.. مروراً بدوري كرة القدم في انجلترا، ومصارعة الثيران في اسبانيا، ومسابقة ملكة جمال البقر في هولندا! وكان أحد الزملاء الأفاضل رئيساً للقسم السياسي في الجريدة. وكثيراً ما كان "يَنْزنق" في مساحة ظلت شاغرة في الصفحة التي يشرف على تحريرها، فإذا به يستنجد ببقية الزملاء لملء الشاغر بأية مادة تحريرية عن أي حدث في أي بلد. وذات مرة قال له زميل ظريف: ليش اليوم الامبريالية في اجازة؟ في إشارة ساخرة إلى مواد صفحته التي تتحدث غالباً عن السياسات الامبريالية في مختلف مناطق العالم! ونادراً ما تزدحم الأفكار لدى الكاتب أو الصحافي. وكثيراً ما تتعطَّل ماكنة انتاجها، وتشحّ بضاعتها، وتغدو الفكرة نادرة أو معدومة كبعض السلع في بعض الأسواق. وحتى اللحظة، ومنذ أكثر من ثلاث ساعات، وأنا أُمسك بالقلم وأُحدّق في الورقة، ولا فكرة في رأسي تُسعفني للشروع في الكتابة. وأُفكّر في الاتصال بصديق أشحذه فكرة، أية فكرة.. فكرة لله يا مُحسنين!
حسن عبدالوارث
فكرة لله يا مُحسنين! 1262