قابلت سفير جنوب أفريقيا في الأردن عدة مرات، وكان سفيرا غير مقيم لبلاده، في اليمن، كما فهمت منه، ووجدته يحب اليمن، مثل كل الذين عرفوها.. قابلته أيضا مساء أمس، وهو من البيض، دمث ووقور، ولا أثر فيه للعنصرية، التي تبادرت إلى ذهني أول ما قابلته..! كلما قابلته تذكرت نيلسون مانديلا، وتذكرت مأساة جنوب أفريقيا فيما مضى وتجربتها الحالية الرائدة. عانت جنوب أفريقيا من صراع وظلم وفصل عنصري استمر أكثر من أربعمائة عام، ولا شبيه له في العالم المعاصر، لكن البيض والسود والملونين تصالحوا ويديرون الان جنوب أفريقيا معا... البيض والسود يبدون من الخارج وكأنهم عالمان مختلفان متمايزان، لكنهم اكتشفوا أخيرا أنهم يمكن يعملوا معا، وأنهم جميعا بشر وأن السود من أمثال مانديلا، لديهم قدرات استثنائية ومواهب فذة أيضا، وأن الإنسان الأسود يصلح أن يكون قائدا للجميع، بل يمكن ان يكون ملهما لكل الأجناس، من كل الأمم، بما في ذلك البيض أنفسهم، أحفاد الذين كانوا عنصريين على مدى قرون وحقب.. جرب ذلك أيضا الأمريكيون أنفسهم، عندما انتخبوا باراك حسين أوباما، رئيسا لهم مرتين، وهو من أقلية السود هناك الذين لا يتجاوزون 13 % من سكان الولايات المتحدة.. كان أوباما ملهما لكثير من شباب العالم، بغض النظر عن بعض السياسات التي التزم بها بحكم المؤسسة. في عالمنا العربي هناك تخلف وعلل موروثة منها ميولات وممارسات عنصرية، لكنها محدودة في تقديري، وليست بحدة الفصل العنصري الذي تلاشى بدرجة تاريخية حتى كاد أن يتآخى البيض والسود في جنوب أفريقيا، وصار لهم مشروع واحد.. لأسباب أهمها اقتصادي ميز عصر الاقتصاد الزارعي، وتوهمات دينية زائفة، عرفت اليمن ما يمكن وصفه بالتمايز الطبقي والعنصري، وقد لا يرقى في نظر كثيرين إلى توصيفه عنصريا كاملا، بالمقارنة، حيث كانت العنصرية في جنوب أفريقيا مثلا، تتميز بالفصل حتى في المدن ومحل السكن، وكان لا يحوز للسود الأكل في مطاعم البيض في أمريكا. كان اليمنيون على وشك، أو في طريقهم إلى تجاوز أساطير ودعاوى وممارسات التمايز الغبي، وكان يمكن النظر إلى كل ذلك من قبيل وصمة تاريخية تجاوزتها كل الأمم.. لكن الحوثي عاد يفرض بقوة السلاح ما يفترض أنه تجاوزه العقل والزمن والعلم والضمير المحترم.. يقابل الأساطير والممارسات الحوثية الغبية، ردات فعل لا تعبر عن مستقبل اليمن الذي يجب أن يكون لجميع أبنائه والقاطنين فيه بكل أشكالهم وألوانهم وأديانهم.. والحقيقة فقد حصل شيء من ذلك في أمريكا، اقصد ردات الفعل، حيث كان يعتقد أتباع أمة الإسلام، وجميعهم من السود، بأن الجنس الأبيض من أصل شيطاني، وأن عيسى نزل للبيض فقط، وأن محمد أسود وهو نبي السود فقط، وأن السود فخر البشرية وأصلها. وإذا كان مشروع الحوثي يتضمن خرافات الاصطفاء العنصري الزائف، فإن ذلك لا يعالج بعنصرية مضادة، وإنما بمشروع جامع لكل الناس، بمختلف الأجناس. قبل أسابيع كنت أتحدث مع مثقف أفريقي، وذكرت نيلسون مانديلا، فقال: لا أحد يذكر ديكليرك، رئيس جنوب إفريقيا الأبيض، شريك نيلسون مانديلا، الذي تقاسم معه نوبل.. وأضاف: لولا إن ديكليرك قائد كبير، واجه المتشددين البيض، مثلما مانديلا واجه السود، لما تمت التسوية التاريخية في جنوب أفريقيا.. عشية انبثاق الربيع العربي، قال توماس فريدمان بأن هناك حاجة لنيلسون مانديلا عربي، في كل بلد عربي فيه ثورة، وقالت لي السفيرة البريطانية جين ماريوت، في لقاء عندما كنت في الإعلام، وسألتها عن تقييمها للوضع: يبدو أن الوضع يتعقد، وللأسف لا يوجد كثير من أمثال نيلسون مانديلا في العالم، بما في ذلك في بريطانيا نفسها.. كانت المعالجات التي جاءت بعد2011 معقولة إلى حد ما، وكانت محل رضى محلي وإشادة دولية، وظننا بأننا اجترحنا معجزة وتحدث الناس عن الحكمة اليمانية، وقد حاول الرئيس هادي تجنيب البلد الحرب من خلال تبني الحوار الوطني، لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن.. وعلى كثرة محاولات المصالحات في الماضي، فإن أيا منها لم يكن بمستوى ما يولد شراكة واستقرارا وثقة ورضى يستمر.. وكتب الدكتور ياسين نعمان، قبل أسابيع، مقالا بعنوان، لصنعاء وجه آخر، وهو يستعيد تجربة الملكيين بعد المصالحة عام 1970، والاشتراكيين بعد الوحدة في عام 1990. وكان الأستاذ با جمال يقول إن الوحدة أهم عملية إصلاح تاريخي حدث في اليمن، لكن تبين أن الأمر لم يكن كذلك، لأن صناع الوحدة كانوا دون مستوى مشروع إصلاح تاريخي، للأسف.. وقبل حرب 1994 سمعت الأستاذ/ علي سالم البيض، يتحدث عن المصالحة في عمان، وهو يقارن باليمن، وكيف بقيت الثقة والمصداقية والشراكة في عمان بعد المصالحة ما يقرب من خمسة عقود، وأشار إلى وجود يوسف بن علوي بن عبد الله إلى جانب السلطان قابوس منذ أكثر من ثلاثة عقود، وهو الذي ظل يحاربه من قبل من خلال جبهة تحرير ظفار التي كان بن علوي عضوا في قيادتها.. ومع ذلك فإن الحاجة أم الاختراع، ولعل زيادة المخاطر الماثلة، التي لم يسبق لها مثيل في اليمن، قد تولد قناعات راسخة لاجتراح معالجات للقضية اليمنية قد تبدو الآن متعذرة ومستحيلة.. وفِي سياق البحث عن حل للمشكلة اليمنية، فالمؤمل أن يكون الحل تاريخيا وشاملا، ويأخذ في حسبانه أسباب الفشل في الماضي وتجنب أسباب تكرار المآسي التي انتهت بالنكبة الوطنية منذ سقوط العاصمة بيد المليشيات المتطرفة. والحقيقة، لا مستقبل لليمن، إلا بمشروع جامع، ومصالحة تاريخية شاملة تتجاوز ألف عام من المآسي والتعثر الحضاري، وتستشرف أمدا مستقبليا طويلا من الاستقرار والآمال والتطلعات لكل أبناء اليمن. * سفير اليمن لدی الأردن
علي أحمد العِمراني
"الحوثي" وخرافات الاصطفاء العنصري الزائف! 1392