روحك أبا "محمد" طيف بديع جامع لكل الألوان، في فضاء موحش واجم إلَّا من لحظات قليلة عابرة مسروقة من نهارات صيفية نادرة الحدوث. اقلب في ذاكرتي المنهكة بفعل عبث التضليل وأوهام الشعارات الثورية الصاخبة، فكل التواريخ البلهاء وكل التجارب الحمقى، غادرت ومحوت، ولست بنادم على ذلك. فأنت يا صاحبي استثناء، بقيت واحدا من أسماء الرفاق، وبقيت وحدك تقاوم النسيان والمحو، وكأني بك خير وصف لقيثارة اليسار الشاعر التشيلي العظيم بابلو نيرودا: الجميع ذهبوا، الجميع رحلوا، الجميع ماتوا؛ إلَّا أنا، فلم أذهب، ولم أرحل، ولم أمت ". ولديك الحق، فمثلك لا يغيب ولا ينسى، كما وقصة كفاحك لا تطوى أو تفنى. إنِّي أشبهك كثيراً وإن اختلفت الدروب أو تقاطعت،ألم يقل هميروس إن المتشابهين يتصادقون. أنت أيها العبدلله، زادك الله فضلاً عنا، فمعدنك نفيس، وفكرك صاف زلال نظيف، من شائبات الانتهازية والغيلة والكذب، وذهنك يماثل وجهك المسكون بالألفة والمحبة والسلام والتصالح مع الذات ومع الآخر المختلف. تشبه الذهب النقي الصافي، فإذا ما سقط الذهب أو طمر في التراب، فإنه لا يفقد قيمته أو بريقه. أحببتك من وتين فؤادي، فبرغم سنون الافتراق والتنائي ظل جامعنا المشترك هو الاحترام لحق الآخر المختلف، كقيمة إنسانية تستوجب التجسيد الحر الشفاف المتحرر من ربقة الخوف والامتهان لكرامة قائله، ومثلما قيل بأن كرامة الإنسان تكمن في فكره. فعلت ذلك بسجيتك وسليقتك العفوية التي لطالما احببتها فيك أيها الفولتير الضالعي الجميل، فعلتها ودونما تصنُّع أو محاكاة لقولة الفيلسوف الفرنسي: ليس بالضرورة أن اتفق مع رأيك، ولكني مستعد للتضحية كيما تعبر عنه وبكل حرية". كنت موقناً أن التطرف يقود إلى التهور، بينما الاعتدال مؤداه بلوغ الحكمة، وهذه لعمري آفة أهل هذه البلاد، فلو أنهم أدركوا مثلك قيمة الاختلاف والتنوع لربما كان حالهم أفضل وبلدهم مستقر ومزدهر. فالحال أن العقل البشري يشبه مظلة الشمس أو المطر، فكلاهما العقل والمظلة لا يعملان إلَّا إذا انفتحا وبشكل كامل، وما يمايزك شهيدنا أن حياتك خضتها بعقل مبصر مفتوح على مصراعيه. آخر مرة رأيتك فيها كانت في ديوان اللواء عيدروس حين كان محافظاً لعدن، كنتُ وقتها اشتغل لصحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية السعودية. وقبل ذينك اللقاء بالمحافظ جلستُ لدقائق معك، وما لفت انتباهي هو أنك مازلت شعلة من النشاط، ومازالت ضحكتك تتضوع في أرجاء المكان. قلت لك: هرمنا يا صاحبي، وشعرك الأدهم اختفى وزال كلياً من رأسك، وبدلاً عنه تسيد البياض وتغول، وأخشى أن أفكارنا -أيضاً- هرمت وشاخت. ومثلما عرفتك، سرعان ما أطلقت ضحكتك المعتادة الممزوجة بإجابة هازئة متفائلة، وكأنك طفلاً بريئاً لا متسع في قلبه للخبث والضغينة والجفاء والمكر. كأن وجهك والابتسامة صنوان لا يفترقان، ولهذا لم تجد صعوبة في استمالة قلوب العوام، فقد قيل: ازرع البسمة في وجهك، تحصد السعادة في قلوب الناس. كنت يا صديقي من جيل الفاتحين، وليس من الطلقاء، وفق وصف جميل أطلقه المناضل الجسور المحامي /علي محمود الازرقي، في الآونة الأخيرة، كلما رأى مزايداً أو زنديقاً متبجحاً ببطولات وتضحيات زائفة. نعم، أتذكر الآن كيف انك ورثت عن والدك الوسطية والاعتدال والتسامح، فحين قابلت والدك، رحمة الله تغشاه، ذات يوم، أشرت الى مكتبته الزاخرة بأمهات العناوين والمطبوعات المرفوفة بترتيب وعناية، لعلي أجد فيها إجابة لفحوى دهشتي من ثقافتك المستنيرة المتفتحة على كل أطياف الرأي الآخر. ولعلك أوصلت رسالتك المشاغبة؛ فمبجرد مصافحتي لعناوين تلك الكتب التي هي مزيج من الناصرية القومية، والاشتراكية والرأسمالية، والوطنية والدينية والفقهية والأدبية والسياسية، أدركت أي ينبوع عظيم نهلت منه وأي ثقافة متعددة تخلقت منها وأي أصالة ونبل أتيت منهما؟؟؟ وحين أكتب الآن عنك، فلأنك مناضل فريد، وثائر مخلص، وصديق يتشرف به أي إنسان، وأصدقك اليوم أنني حزين للغاية، فبعد عام ونيف مازال دمك المثغب المعفر في رابعة النهار مهرقاً شاهداً على دمامة القاتل، وعلى عجزنا المهول الفاضح في الاقتصاص لروحك الطيبة الطاهرة من دنس القذارة السياسية. ارثيك الآن وبكل فخر واعتزاز، وأقول لك وبثقة مطلقة: ما مات من خلف ذرية صالحة أو قضية عادلة، وأجزم الاثنان هما من سينتصران لك في نهاية المطاف. وليكن بمعلومك أن الوفاء من شيم الكرام، والغدر من صفات اللئام، وقد كنت وفياً كريماً وكان قاتلوك لؤماء انذال. فلا شيء يُصيِّرنا عظماء مثل ألم رحيل العظام، وأجزم أن أشرف الموت هو موت الشهداء، فطمئن ونم بسلام وسكينة، صاحبي المهندس/ عبدالله احمد حسن،وليرحمك الله وليسكنك الفردوس الأعلى بجوار الشهداء والصديقين، وليلهمنا جميعاً، اهلك وصحبك، الصبر والسلوان
محمد علي محسن
المتشابهون يتصادقون !! 1333