الإسلام هو الإرهاب، الإسلام هو الإكراه، الراديكالية إسلامية، المسلمون متوحشون. الإسلام يمتهن المرأة، الإسلام لا يتماشى يزدري الحضارة، الإسلام يضطهد الأقليات، الإسلام، الإسلام، الإسلام. ومرة صرخ زعيم أوروبي أن الإسلام البدوي يغزو أوروبا المتحضرة. وكتبت «نيويورك تايمز»: «هناك شيء واحد يتفق عليه الأميركيون وأسامة بن لادن، وهو أن الهجوم على مركز التجارة العالمي كان بسبب الإسلام». وعاد ستيف بانون كبير مستشاري ترامب الاستراتيجيين، سابقاً، ليقول إن «الإسلام ليس دين السلام، إنه دين التسليم والإكراه». أما رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان فوقف كأحد فرسان «الحروب الصليبية، ليقول إن بلاده تمثل «آخر قلاع أوروبا في وجه الغزو الإسلامي». وكل يوم تقذف وسائل التواصل الاجتماعي في وجوهنا بالعبارة الممجوجة «الإسلام يغزو شوارع أوروبا»، إلى درجة أن وضعت استبيانات من مثل: هل تخشى من غزو إسلامي لأوروبا؟». هذه الهجمة الممنهجة يراد منها عدة أهداف، فِي مقدمتها: التغطية على الجريمة الكبرى التي نفذتها القوى الدولية ضد المسلمين في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا والجزائر قبل ذلك، وعلى أحداث بورما في ما بعد. تريد تلك القوى أن تغسل دم المسلمين من يدها، وتلطخ وجه الإسلام به، تريد كذلك أن يصل المسلمون إلى حالة يشعرون فيها بأنهم – هم- سبب نكبتهم، في نوع من الجلد المبرح للذات، بحيث يظلون حبيسي عقدة الذنب والنقص، التي تمنع عن رؤية الإرهاب المنظم الذي يمارس ضدهم. ويأتي التفسير «الإرهابي» للآية «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم»، في سياق ما تريد دوائر بعينها أن تصِم المسلمين به. والحقيقة أن كلمة «ترهبون» في الآية ليست لها أي علاقة بالمفهوم المعاصر الملتبس للإرهاب، لأن الإرهاب المذكور في الآية يعني استهداف عسكريين لا مدنيين، بحكم أن «الإعداد» المطلوب في الآية يقصد به التهيؤ لمواجهة مقاتلين بدؤوا هم في التحضير لعدوان شامل، ثم إن الغرض من الإرهاب في الآية، هو منع الحرب، بإحداث نوع من «توازن الرعب» الضروري للسلام، إذ أن إرهاب العدو المقاتل يعني منطقياً منع وقوع الحرب، وهذه المعاني السامية لا تتوفر عليها كلمة Terrorismالتي تترجم خطأ إلى «إرهاب»، في اللغة العربية، لأن دلالات الكلمة الإنكليزية تذهب إلى استهداف المدنيين لا المقاتلين، في ضرب من العدوان، لا تلتقي أهدافه مع أهداف الآية في منع الحرب، وحصرها بين المقاتلين إذا اندلعت. ومع ذلك، تنطلق أبواق اليمين الأورو- أميركي مرددة أن القرآن ينص على وجوب «إرهاب» غير المسلمين، ويردد خطيب جمعة أحمق هذه الخرافة، التي يؤمن بها رئيس الوزراء المجري. يقول علماء السيسيو- سيكولوجي إن نظرة المجتمع الدونية لبعض فئاته المهمشة ولَّدتْ لديها نظرة دونية لنفسها، وهذا بالضبط ما تريده تلك الماكنة الضخمة، من وراء استدعاء الإسلام، بعد كل عملية إرهابية تحصل هنا أو هناك. إن الإرهاب اليوم يمكن أن يعرف باختصار على أساس أنه «جرم إسلامي»، بحيث لو قام غير مسلم بالعمل ذاته لما وصف بالإرهاب، وهناك شواهد لا تحصى على ذلك. وذهب البعض إلى التصديق بأن الإرهاب موجود في صلب التشريعات والعقائد الإسلامية، وأنه لا يمكن لأي عملية «إصلاح ديني» أن تخلص الإسلام من التفسير المتطرف له، لأن المسألة ليست مسألة تفسير متطرف، ولكنها مسألة ديانة متطرفة، وأي محاولة لإصلاحها وتخليصها من متعلقات الإرهاب، لا تعني إلا القضاء عليها، حيث «يمثل الإرهاب جوهر الإسلام»، وهو ما ظهر من رسالة نشرها عدد من اليمينيين الفرنسيين، الذين طالبوا «بحذف آيات قرآنية عفى عليها الزمن»، حسب نص رسالتهم المنشورة، في شهر مايو/أيار الماضي. إن الفوضى الإعلامية والفكرية التي وصلت إليها «الحالة الإسلامية» هي الهدف من هذا الضخ الكبير، وهي الوضع المطلوب لإبقاء المسلمين بلا محتوى روحي، أو أبعاد قيمية، ولنقض الأسس الثقافية والمرتكزات الحضارية التي يعلم من يريدون نسفها أنها تشكل القاعدة الصلبة لأي محاولة لنهوض «العدو التاريخي» لتوجهات الحضارة العالمية. أما بعض المسلمين المندفعين بعماية فكرية، للدعوة للتخلص من تراث الإسلام، بوصفه العائق الأهم أمام نهضة المنطقة، والتحاقها بركب الشعوب على الضفة الشمالية للمتوسط، فهؤلاء عليهم أن يدركوا أنه حتى لو سلمنا جدلاً بأن الإسلام يمثل عامل التخلف الأكبر في المنطقة، فإن الدعوة إلى التخلص منه ستكون بمثابة الدعوة لإسقاط منظومة معينة، بدون تهيئة البديل المناسب، وهو ما يعني الذهاب إلى فوضى روحية، وانهيارات فكرية، وصراع اجتماعي لا يتوقف. ثم إن التخلص من الإسلام لن يكون الحل الأنجع للالتحاق بركب الشعوب المتقدمة شمال المتوسط، لأن هناك شعوباً غير إسلامية تصنف ضمن «الرتبة الحضارية» لجنوب المتوسط، رغم أنها لا تعتنق الإسلام، وهذا ما يحتم النظر في مجموعة من عوامل «الكبح الحضاري» التي تؤثر في السياقات العامة لشعوب المنطقة، والتي لن يكون منها الإسلام بكل تأكيد، لأن المؤرخين يجمعون على أن أعمق أثر حضاري مرَّ على المنطقة، تمثل في ظهور الإسلام في جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي، وأنه شكّل حجر الزاوية في النهضة العربية التي جاءت بعده، ومترتبة عليه، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان، التصديق بأن جملة المبادئ العامة، والقيم الروحية، والمحتوى الفكري الذي جاء به الإسلام، والذي كان حجر الزاوية في النهضة العربية في العصور الوسيطة، يمكن أن يكون سبباً في تخلف شعوب المنطقة اليوم، مع ضرورة التسليم بأن جزءاً من عوامل تراجع تلك الشعوب مرتبط بعملية الخداع النفسي والاجتماعي، التي بموجبها أعادت شعوب المنطقة إنتاج ثقافتها القبلية، ومورثها البدوي تحت مسميات إسلامية، الأمر الذي يحتم على المسلمين إعادة النظر في الكثير من المنتج التراثي المرتبط بالـ»عرف القبلي» للعرب قبل الإسلام أكثر من ارتباطه بالـ»محتوى الروحي» للإسلام. مع العلم أن عمليات «المنتجة» تلك تعرضت لها كل الديانات، والمثال الأبرز على ذلك إعادة إنتاج التراث الديني والفلسفي الإغريقي والروماني، ضمن خط إنتاج مسيحي، بعد دخول شعوب تلك الإمبراطوريتين في المسيحية، في القرون التالية للمسيح. ولأن الثقافة السلوكية السائدة لدى شعوبنا هي ثقافة قبلية أعيد إنتاجها في ثوب إسلامي، ولأن تلك الثقافة هي التي تحكم تصرفاتنا سياسياً واجتماعياً، فإن الفرق يبدو ضئيلاً بين ممارسات الإسلاميين والعلمانيين منا، لأن كلاً من الإسلامي والعلماني يصدران في سلوكياتهما عن ثقافة اجتماعية واحدة، لا عن أيديولوجيتين مختلفتين. إن تلك الحالة من الالتباس تعكس حقيقة أنه على الرغم من أن الأديان السماوية تؤكد أن الله خلق الإنسان على صورته، إلا أن الإنسان يحاول -لا شعورياً- مع الزمن أن يصنع إلهه على صورته هو، وهذا ما جعل العرب «يُقَبْيِلون» الإسلام، بدلاً من «أسْلَمة» القبيلة، أو«يُعَرْفِنون» الشرع، بدلاً من «شَرْعَنة» العُرف. وبالعودة إلى الهجمة المنظمة على الإسلام اليوم فإنها يمكن أن يستفاد منها لغير الهدف المرسوم لها، والمتمثل في إدخال شعوب المنطقة في حالة من عدم اليقين والفوضى المطلوبة، لإبقائها تحت الوصاية الحضارية، وستكون تلك الهجمة ذات فائدة إذا حركت لدى المسلمين عمليات مراجعة شاملة لتراثهم الديني، تهدف إلى التمييز بين ما هو من «دين محمد»- عليه السلام- باعتباره نبياً مرسلاً، وما هو مأخوذ من «تقاليد قريش» باعتبارها قبيلة عربية. أما محاولات بعض الاتجاهات العلمانية العربية المتطرفة، للعبور إلى الضفة الشمالية للبحر الأبيض على ظهر سفينة مصنوعة شمال المتوسط، فلا تعني أكثر من الوصول إلى المحطة التي يريدها الربان لا الركاب، وربما انتهت السفينة إلى الغرق وسط الأمواج. تلك المحاولة الطفولية الساذجة، هي ذاتها محاولة بعض الإسلاميين المتطرفين، في العبور إلى الضفة الجنوبية للزمن، على ظهر ناقة سائمة في صحراء بلاد العرب، ربما انتهت بها الرحلة إلى الموت عطشاً في الرمال. مطلوب من المسلمين اليوم عدم الالتفات للبروبغاندا السياسية والإعلامية، التي تسعى لهز ثقتهم بأنفسهم، وضرب محتواهم الروحي، تلك الحملة التي لا تتوخى نقل المسلمين إلى قيم الحداثة، ولكن تهدف إلى إبقائهم مجرد أتباع للقوى الدولية، لا يرتقون إلى مستوى الندية والشراكة الحضارية. مطلوب من المسلمين ممارسة منهجية النقد الذاتي بعيداً عن جلد الذات، وذلك بفتح أبواب الاجتهاد الذي يعد المرادف الموضوعي للمصطلح الحديث «التفكير الحر»، الذي لن يقود سفينتهم بالتأكيد إلى الضفة الشمالية للمتوسط، كما لن يقود ناقتهم إلى صحراء العرب، ولكن سيقود إلى عملية مصالحة مثمرة بين التاريخ والجغرافيا، لمداواة جروح الخريطة، ومعالجة ندوب التاريخ.
د.محمد جميح
مَنْتجة الصورة...تفخيخ الإسلام 1296