في مساحة خضراء مفتوحة اعتادت العائلات الخروج إليها للتنزه جلست أتأمل بحسرة آخر مظاهر الخضرة التي تغادرنا في إب. كان أطفالي قد ابتعدوا للعب؛ عندما اقتربت مني طفلة صغيرة مرتبة الشكل في الخامسة تقريبا؛ كنت أنظر إليها متعجبة من اقترابها ونظراتها القلقة المعلقة بتحركاتي.. تفاجأت حين تناولت علبة العصير التي تركها الصغار وراحت تهزها ببطء لتتأكد هل ما زال فيها بقية ؟!! قبل أن تقطّر ما تبقى منها في فمها الجاف.. كان هذا المشهد كافٍ كي يتحول العالم كله إلى سواد في عيوني وزاده قتامة شعوري بالقهر أن لا علبة عصير أخرى بحوزتي.. كان الجوع ظاهر على الفتاة الصغيرة شحوبها؛ وشفتاها المبيضة في جفاف. أمسكت يدها الصغيرة وسألتها: أين ماما ؟ مع من أنت ؟ رفعت رأسها وأشارت لامرأة تقترب من حيث أجلس؛ نهرت المرأة ابنتها واعتذرت مني بلباقة امرأة متعلمة. لم يكن يظهر منها شيء حتى عينيها فقد أسدلت الخمار على وجهها. أدركتُ أنها تحاول أن تخفي نفسها خوفا من أن يعرفها أحد؛ لكنها غفلت الطفلة كبطاقة تعريف لمن يعرفها. مدت لي مجموعة من المسابح كانت في حقيبتها قائلة: هل تشترين من أجل الاستغفار ؟ قلت استبقيها للحديث: نعم.. هل تبيعين شيء آخر ؟ مدت لي أساور للبنات صناعة يدوية من الخرز تقوم بصنعها نساء كثيرات هنا. قلت لها بفضول: هل يدر عليك دخل بيع هذه الأشياء ؟ قالت بغمغمة: ما كتب الله. قلت لها: هل لديك مصدر رزق غيرها ؟ قالت: زوجي مدرس؛ لكنه الآن شاقي ولا يجد عمل أغلب الأيام. سألتني بدورها: لماذا تسألين ؟ قلت لها بصدق: أنا أكتب قصصا عن واقعنا هذا وفكرت أن أكتب قصتك دون أن يعرف أحد لمن هي. قالت لي بثقة: كل الذين يتحدثون ويكتبون عن الجوع على مواقع التواصل سيكتبون عنه بحزن؛ بصدمة؛ بقلق؛ ثم يأتي وقت الطعام ويأكلون حتى الشبع. نحن فقط نعرف ماذا يعني أن ينتهي الخبز من البيت ولا كتابات متعاطفة ستأتي بهذا الخبز. نحن فقط نرى أطفالنا ينامون على كذبة "سيأتي الخبز بعد قليل" ولا يأتي إلا بعد أن يستيقظوا على وجع الجوع. نحن فقط من لن تصل مشاعرنا هذه وأصوات أمعائنا إلى تلك المواقع؛ نحن الذين لا وقت محدد لتناول الطعام لدينا؛ وحين يأتي نعرف أنا لن نشبع أبدا من هذا الفتات..
فكرية شحرة
استغفروا.. إنه الجوع 882