طيلة عقود من حكم النظام السابق كانت أهداف ثورة الـ26 من سبتمبر 1962م عبارة عن تروسية "صنمية" صُممت كتقليد صوري يوضع على صفحات الصحف الرسمية وأغلفة بعض المطبوعات الحكومية، لكنها في حقيقة الأمر غائبة عن الحضور في عقلية ووجدان من عاشوا في تلك الحقبة الزمنية. أعتقد أن أجمل ما في الانقلاب الحوثي هو إحياء معاني الثورة الأم" في نفوس أبناء الشعب اليمني بكل توجهاتهم وأجناسهم، وبعثها للروح الثورية في معنوياتهم، وارتفاع الوعي بحقيقية معنى الجمهورية وخطر الإمامة. لقد كان انقلاب الحوثيين " رغم ألمه وفاجعته" بمثابة الإنعاش النفسي والعاطفي لذاكرة اليمنيين، حتى أدركوا معنى الثورة وحجم تضحياتها التي قدمها قادتها الأحرار، ليس بتاريخها وتسلسلها الزمني فحسب، بل بمعرفة الوضع السياسي والاقتصادي والتعليمي لتلك الحقبة التي فرضت فيها الإمامة هيمنة دموية، حتى أحالت اليمن إلى سجن موحش تمددت فيه العبودية وترعرع فيها الجوع والمخافة. لقد تم تقديم ثورة 26 سبتمبر طيلة العقود الماضية في مناهجنا ومدارسنا بطريقة فيها خيانة كبرى للثورة ورجالها، حيث قُدمت في بضعة سطور عقيمة، وقدمت للأجيال على أنها يوم إجازة فيه توقد "شعلة نار" بميدان التحرير من كل عام، كما أنها أيضا خط أسود موجود في العلم الجمهوري، تلك القطعة القماشية التي ترفرف في ساحة المدرسة وأعمدة الشوارع . لم يدرك اليمنيون المعاني الحقيقية لقضايا الاضطهاد والقمع وممارسة العبودية التي كان ينتهجها الإماميون على الشعب، ولم يعوا بقضايا التوحش والدموية التي كانوا يمارسونها ضد دعاة الحقوق والحريات إلا عند عودة الإماميين الجدد القادمين من كهوف مران و طيرمانات السلالة . كما أن الأجيال التي عاشت في عهد الثورة لم تدرك معاني الحديث عن الجوع والفقر والمرض في تلك الحقبة، لكنهم اليوم أدركوها واقعا وممارسة في ظل سطوة الإمامة الجديدة وانقلابها على الجمهورية والثورة. في المساحات الجغرافية التي تحلتها الإمامة اليوم لم يعد هناك جوع كما كان قبل نصف قرن وحسب، بل أصبحت مجاعات تجتاح قرى ومديريات ومحافظات، ولم يعد اليوم هناك مرض أو بضعة أمراض كما كانت من ذي قبل بل أصبحت اليوم أمراضا وأوجاعا، حتى الأوبئة التي تم القضاء عليها نهائيا في اليمن وفي القارة الإفريقية قبل سنوات طوال،عادت مع عودة هذه الإمامة الحاقدة. ثمة متسللون من بقايا الإمامة وخلاياها النائمة زحفت عقب الثورة " قبل نصف قرن "بصمت إلى مفاصل حساسة من جسد الجمهورية العربية اليمنية وحطوا أثاقلهم في مناصبها وإداراتها التي تتحكم في صناعة المناهج والتعليم والفكر والثقافة، وغيبوا عنا كل فجائع "الإمام وثقافة العكفي" وتاريخهم المظلم، وقدموها لنا بصورة أكثر من سطحية، بل ونجح أولئك الأماميون في ان يزرعوا في وجدان هذه الأجيال الحقد والكراهية على الدولة العثمانية التي أحدثت خلال حكمها لليمن نهضة في كل مناحي الحياة "مازالت أثارهم ومنجزاتهم شاهدة عليهم حتى اليوم"، أكثر من حقد أجيال الثورة على حكم الإمامة . بل وثقوا في مناهج الجمهورية ودرسوا أجيال الثورة على أن حكم العثمانيين كان احتلالا في حين كانت الإمامة دولة ثائرة قاومت المحتلين واستعادة كرامة اليمن وأرضه من المغتصبين. بحثت عن تاريخ الثورات العريقة في عدد من بلدان العالم، فوجدت أن الشعوب الحية أفردت مساحات باهرة ومتعددة في مناهجها الدراسية والتعليمية بكل مستوياتها عن ثوراتها، وكيف قامت ولماذا قامت وكيفية الحفاظ عليها. لقد خُدعت الثورة والجمهورية طوال أربعة عقود من أولئك الدخلاء الخبثاء الذين لبسوا لباس الثورة وغنوا بتراثها، وتمايلوا طربا على ألحانها، ومن مواقعهم تعمدوا طوال هذه العقود بتفريغ الثورة من مضمونها وتغييب حقائقها. ابحثوا عن كل مناهج التعليم في اليمن من الابتدائية حتى الجامعية، لن تجدوا صفحة قامت بشرح أهداف الثورة، وكيف أصبحت أهدافا، ومن وضعها، ولماذا وضعت، ولماذا لم تتحول إلى أهداف استراتيجية تعمل على تحقيقها الحكومات المتعاقبة والرؤساء المتلاحقين. ثمة أرث كبير ومسئولية عميقة تنتظر رجال الثورة الجدد، وحاملي مشاعل الجمهورية من هذا الجيل، تتمثل في تصحيح أخطاء الماضي، وتقديم الثورة كتاريخ متسلسل في مناهجنا وتراثنا الثقافي ووسائلنا الإعلامية . يجب أن نصنع من ثورتنا الأولى والثانية التي نعيش اليوم فصولها ملاحم لأبنائنا وبناتنا وكل الأجيال القادمة، وعلينا ان ندرس رموزها وقادتها وتفاصيلها حتى تعيش في قلوبهم لا في صفحات صحفهم ومطبوعات أنظمتهم.. ولا نامت أعين الجبناء .
أحمد عايض
إماميون في أوردة الجمهورية 1213