لم يكن العراق في يوم من الأيام - كما يقص علينا تاريخه الحديث- إلاَّ واحداً من أهم الأقطار المؤثرة في محيطها العربي والإنساني. وما حدث في العقدين الأخيرين من الانكسار والتوقف عن دوره التاريخي لم يكن إلاَّ نتيجة العوامل العديدة التي تركها الاحتلال الأميركي، وما روج له من خلال أحاديث فارغة عن أهمية تأهيله للديمقراطية والتحديث، بالإضافة إلى مواقفه العملية في التمكين للطائفية وزرع الانقسامات داخل المجتمع المتماسك انطلاقاً من اعتماده على الفوضى الخلاقة، وهو المصطلح المدمر الذي أراده جورج بوش وأعوانه ليكون وسيلة للقضاء على الوحدة الوطنية والتحلل من النظام والتبعات التي تترتب على بناء التنمية وطرق أبواب التحديث بمعناه الصحيح. وقد نجح الاحتلال في تنفيذه لهذه المعوقات ووجد من عملائه والسائرين في فلكه أداة طيّعة لتحقيق هذا المأرب الذي كانت عواقبه من الوضوح لعين المواطن العادي وبصيرته فضلاً عن المواطن المثقف الواعي. لقد ترك الاحتلال أثناء حكمه المباشر للعراق في سنوات قليلة ما يجعل هذا البلد يحتاج إلى عشرات السنين للتحرر من سلبيات تلك السنوات وآثارها التي امتدت إلى كل شيء، وكانت الوحدة الوطنية هي هدفه الأول، فأمعن في تخريب مقوماتها مستخدماً كل وسائل التدمير طائفياً وجهوياً وإثنياً، ما جعل العراق يبدو في تلك السنوات العجاف وكأنه مجموعة شعوب تنتمي إلى تواريخ متصارعة، وفتح الباب على مصراعيه للدول الإقليمية والدول الأجنبية ما جعل العراق أشبه بقطعة الشطرنج يتكاثر اللاعبون عليها، وليس منهم لاعب عراقي واحد. عندما أنهى الاحتلال الأميركي حكمه المباشر كان قد اطمأن إلى أن كل شيء صار حسب المخطط الاستعماري، وأن قوى الفوضى الخلاقة التي زرعها ستؤتي ثمارها، وأن العراق سيظل بحاجة إلى قواته وإلى آرائه وحكمته. ولا مانع لديه أن يكون للقوى الإقليمية المجاورة من الوجود في هذه اللعبة ما تشتهي، وقد أعطى الأذن لبعض المكونات العراقية أن تتغافل عن وجودها المستقل، وأن تستغل المستجدات الدولية لتفرض ما تشاء تحت الحماية الأميركية المباشرة وغير المباشرة. لكن العراق العظيم قد ينام قليلاً، لكنه لابد أن يصحو، وقد يستسلم بعض الوقت تحت ضغوط عوامل قاهرة، لكنه بعد الاستسلام المؤقت سينفجر محطماً في طريقه كل القيود. ولم تكن السنوات الأخيرة سوى بداية مؤجلة لتحطيم تلك القيود قيداً قيداً، ويخوض تجربة الانطلاق بقدر من الوعي الكامل والإدراك التام. ومن يتابع الكلمات التي قيلت في حفل افتتاح البرلمان العراقي الجديد وما تضمنته من وجهات نظر ورؤى وطنية شديدة الوضوح وعميقة الصلة بما يجب أن يكون عليه مستقبل هذا البلد وما ينبغي أن يحافظ عليه من السيادة والاستقلال ورفض التدخل في شؤونه واستغلال الطائفية التي ستصبح مع النظام الجديد في خبر كان، أقول إن من تابع تلك الكلمات لابد أن يشعر أن عراقاً جديداً ينهض مرتبطاً بتاريخه ومقوماته الوطنية، وأن أي قوة مهما كان نصيبها من التآمر واختلاق المعوقات لن تتمكن من الوقوف في وجه الطموح القومي والوطني، أو أن تعيده مرة أخرى إلى الخلف. فقد تغير الزمن كثيراً عما كان عليه في العقدين المنصرمين وصار في مقدور الشعوب أن تحسم أمرها، وأن تقول:«لا» عالمياً وإقليمياً.
د. عبدالعزيز المقالح
هل يفلت العراق من كمّاشة الطائفية؟ 937