قصة «السقيفة» كقصة «الغدير»، في كونها محطة تاريخية تستند إليها عصبيات التمذهب السياسي التي تعتبر ما جرى فيها تشريعاً دينياً في نظام الحكم، خصوصاً فيما يتعلق باختصاص قريش بمنصب الخليفة أو أولويتهم على الأقل، حيث يزعم بعضهم أن أبا بكر احتج بحديث نبوي قال فيه: «الأئمة من قريش»! وذلك استشهاد غير دقيق وفيه مغالطات جمَّة؛ لأن ما جرى في السقيفة - وإن كان جدلاً حول الخلافة - لم يستحضر المختلفون فيه أي نص شرعي من القرآن أو من قول النبي يفرض صيغة معينة لنظام الحكم أو تعيين خليفة أو ترشيح عشيرة! ويؤكد هذا عدة أمور منها: 1- أن المحدثين والمؤرخين اتفقوا على أن الأنصار ذهبوا - عقب موت رسول الله صلوات الله عليه - إلى سقيفة بني ساعدة؛ لينصبوا واحداً منهم للخلافة، باعتبارهم أصحاب الأرض وأهل النُّصرة، ولو علموا نصاً من رسول الله في شأن قريش لما تجاوزوه، لما كانوا عليه من تديّن وتقيُّد بحدود الشرع، لا سيما وأنه ولا يمكن أن يُقال إنهم كانوا غائبين فلم يسمعوا كلام النبي، خصوصاً أنهم كانوا يعدون بالمئات وهم معنيون بالمسألة أكثر من غيرهم، وهي مما تعم به البلوى علما وعملا. 2- أننا رجعنا إلى أمهات مصادر الحديث والتاريخ التي دُوّنت في الثلاث مئة سنة الأولى فلم نجد مَن ذَكَر الحديث في قصة السقيفة، فكيف تمر ثلاث مئة سنة على قصة مهمة ومتداولة كقصة السقيفة ولم يذكر فيها، ثم يأتي من يذكرها بعد ذلك بصيغة أخرى ويضمنها أحاديث نبوية تغير مسارها؟! وهذا مما يدل على دور التنافس السياسي في صناعة أمثال هذه الروايات أو تطويعها. ومن يشك فيما نقول - من عدم وجود الحديث في القصة - فباب البحث والتتبع مفتوح أمامه. 3- أن جملة من خُبراء الرواية غَلَّطوا مَن ذَكَر حديث القرشية في قصة السقيفة، كابن الملقن، وصلاح الدين العلائي الذي قال: لم أجده هكذا في شيء من كتب الحديث والسير. ونفى ابن حجر (في فتح الباري) أن يكون هذا الحديث وقع في قصة السقيفة. ومن علماء الزيدية أنكر محمد بن المطهر (في المنهاج الجلي) أن يكون خبر القرشية ورد في قصّة السقيفة. وجزم المقبلي (في الأبحاث المسددة) أن أبا بكر لم يتج على الأنصار بذلك وإنما قال شيئا من رأيه. حتى محققو الإمامية أنكروا ذلك كما جاء عن الشريف المرتضى في (في الشافي). 4- اتفقت روايات قصة السقيفة على أن عمر بن الخطاب اضطر إلى قطع النـزاع خوفاً من اتساع رقعة الخلاف، فبادر إلى بيعة أبي بكر ولم ينتظر موافقة الآخرين (كما في رواية البخاري)، حتى انه قال: «أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمراً هو أوفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة». 5- أكثر روايات قصة السقيفة وأشهرها تدل على أن الأنصار لم يستجيبوا لقول أبي بكر، وأصروا على موقفهم، فقال لهم: «نحن الأمراء وأنتم الوزراء»، فأجابه الحباب بن المنـذر (حسب رواية البخاري) قائـلاً: «لا والله لا نفعل منا أمير ومنكم أمير»، فكان ذلك اقتراح منه لقيادة جماعية، وعن ذلك قال ابن تيمية (في منهاج السنة): «إن بيعة الصديق تخلف عنها سعد بن عبادة ومات ولم يبايعه ولا بايع عمر، ومات في خلافة عمر». وهذا كله يعني أن ما جرى في أول اجتماع للصحابة بعد موت النبي في شأن الخلافة يؤكد أن النص الديني لم يكن حاضرا في مسألة نظام الحكم، وأن الأمر كان متروكاً لتقديرات الناس حسب مقتضى أحوالهم، وكما كان كذلك بالأمس فهو كذلك اليوم، فليس لأحد - باسم الله والدين - أن يرغمنا على صيغة معينة ندير بها شؤون حياتنا! والله الموفق. سيكون المنشور القادم بإذن الله عن حديث «الأئمة من قريش».
محمد عزان
دردشة في الولاية 4/أ 1242