لم يعد الخلاف الناشب بين أوروبا والولايات المتحدة من الأمور الخافية، أو تحت الطاولة، فقد صار الخلاف سافراً، بل ومفضوحاً، بعد قرن من الاستراتيجية الموحدة، والمصالح المشتركة. وفي إمكان أقل المتابعين وعياً بالشؤون العالمية أن يدرك أن كل شيء قد تغير تماماً، الاستراتيجية والمصالح المشتركة، وأن يصدر الرئيس الفرنسي ما يشبه البيان يناشد فيه أوروبا ألاَّ تعتمد في أمنها على الولايات المتحدة، فمعنى ذلك أن الخلافات وصلت بين الدول الأوروبية والدولة العظمى درجة غير مسبوقة، ولم يعد هناك أقل أمل بأن يعود شيء مما كان إلى ما كان.. وكل المتابعين يدركون أن هذا الذي حدث، ويحدث، تم نتيجة للخطوات الأخيرة التي اتخذها الرئيس رونالد ترامب، وليس فيها أدنى مراعاة للتحالف التاريخي والاستراتيجية المشتركة، وهو أول رئيس يتخذ من المواقف ما لا مكان فيه للمشاعر، ولا حسابات معه للعلاقات، قديمة كانت أم حديثه. ومن المؤكد أن خلافات كثيرة قد حدثت بين الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، في وقت من الأوقات، لكنها كانت خلافات محكومة بضوابط لا تخضع للمواقف الآنية. لذلك فقد كانت تحسم، وتتم معالجتها تحت الطاولة، ومن دون أن تترك أثراً ظاهراً في العلاقات المتينة التي ظلت قوية ومتماسكة في وجه المنافسين من جهة، وفي وجه الشعوب التي ترغب في الانفكاك من قبضة الهيمنة، إلاَّ أن ما يحدث الآن أكبر من خلاف، وأوسع من انشقاق أنه إنذار بانفصال نهائي عن الدولة العظمى. ومن الصعوبة إعادة الأمور، أو بعضها إلى ما كانت عليه، لقد اتسعت الهوة بين حلفاء الأمس، وزادتها التصرفات المتوالية للرئيس الأميركي اتساعاً. وبدأت أوروبا تعيد النظر في واقعها، وكيف تستطيع أن تعتمد على نفسها.. وهي في حالة شك وحذّر من الاستعانة بأي من الأقطاب الحديثة، والطامحة إلى ملء الفراغ الذي تتركه الولايات المتحدة التي كانت توفر الغطاء الأمني لأوروبا، ولدول أخرى خارج النطاق الأوروبي. إن العالم يتغير بأسرع مما كان يتصور المشتغلون بالمستقبليات السياسية، وهو تغير يصاحبه نوع من الفوضى والإرباك شأن الزلازل العنيفة التي تحتاج إلى وقت طويل كي تستقر معه الارتدادات. ولا مجال للشك في أن ما يحدث في بلادنا العربية من حروب وصراعات ليست إلاَّ امتداداً لهذه المتغيرات العالمية، وقد وجد الآخرون من المتصارعين والمتنافسين مجالاً في بعض أقطارنا لتفريغ طاقة التنافس.. ونحن العرب وحدنا الذين نتحمل عاقبة ما يحدث بين الكبار. ويبدو أن الكثير من قادتنا قد أسعدتهم اللعبة فتقبلوها غير مدركين لآثارها المريعة والتي سيكون من بعض نتائجها تقطيع الأقطار العربية المجزأة أساساً، إلى دويلات محمية من الخارج الذي لم يعد واحداً، بل صار متعدداً، وكما كان حاضراً في الحرب، فسيكون حاضراً أيضاً بعد الحرب، وفي مرحلة الاستسلام. والسؤال الذي وددت طرحه في بداية المقال هو: هل يؤثر ما يحدث في أوروبا في وحدة شعوبها، وتجد بعض القوى الانفصالية الوقت مناسباً لفك الارتباطات التاريخية بعد أن صارت جزءاً من بنية واحدة متماسكة اجتماعياً واقتصادياً؟ والإجابة باختصار أن كل شيء ممكن، ورهن الاحتمال.
د. عبدالعزيز المقالح
أوروبا والولايات المتحدة.. الخلاف يتسع 879