منذ بداية وجوده أدرك المجتمع البشري -بفطرته- أنه يحتاج إلى نظام إداري يضبط علاقة الناس ببعضهم، لاسيما وأن كل إنسان يرى الأمور بعين خصوصيته، ويقدر الأشياء حسب ثقافته وتأثير محيطه، مما يجعل الاختلاف والصدامات والاضطرابات حاضرة في حياة الناس على نطاق واسع. وفي نفس السياق، أقرت الرسالات التي جاء بها الأنبياء مبدأ نظام إدارة الحياة وضبط حركة المجتمعات، وأكدت على ضرورة ترشيد النظام بما يحقق قيم العدل والإحسان، ويجلب المنافع، ويدفع الضرر، ويجعله أكثر دقة وفاعلية، دون أن تفرض كيفية معينة لنظام الحكم. واكتفى القرآن -في ما يتعلق بنظام الحكم- بالدعوة إلى تحقيق العدل والإحسان وحفظ الحقوق ونحو ذلك القيم العامة، وترك التفاصيل والكيفيات لكل مجتمع ينتجها حسب ظروف الزمان والمكان التي يعيشها، وبما يتلاءم مع الأحوال والأوضاع التي يمر بها؛ لأن المجتمع المباشر لأي نظام هو المَعْني به، وهو من يقع عليه أثره سلباً وإيجاباً.. ولو كان وضع الكيفيات أمراً لازماً لما أهمله القرآن أو اكتفى بالإشارة إليه إشارة خفية، في الوقت الذي فَصّل فيه موضوع المُدَاينة بأطول آية في أطول سورة. وكذلك لم نجد فيما صح من سيرة نبينا محمد صلوات الله عليه، أنه تعامل -مع المؤمنين برسالته- كملك، أو أنه فرض عليهم كيفية معينة لنظام سياسي، واعتبره شرعَ الله المُلزم، ولكنه كان يتعامل مع الأحداث بما يحقق فيها العدل والإحسان، ويجلب النفع، ويدفع الضر، ولا يجد حرجاً في تغيير أساليبه أو إيكال أمر إدارة شؤون حياة الناس إليهم، فالأساليب والكيفيات ليست مقصودة بذاتها، وإنما هي وسيلة لتحقيق الغايات. ولهذا نجد أن كل واحد من الخلفاء الراشدين صار خليفة بكيفية تختلف عن الآخر، كما نجد أن تقديرات الصحابة للأولى والأصلح كانت مختلفة أيضاً، ولم يدّع أحد منهم أن النبي فرض على المجتمع صيغة معينة. أما ما وجد في تراث المسلمين من روايات تنص على تعيين أشخاص أو تحدد كيْفيات أو تختص قبيلة قريش أو عشيرة بني أمية أو بني العباس أو سلالة علي أو أبناء الحسين، فجميعها أحاديث سياسية ظهرت متأخرة عن عصر الرسالة، أو تم توجيهها في ظل التنافس المجتمعي والصراع السياسي، حتى إن أكثرها أُخذ من سياقه الموضوعي، وتمّ تركيبه في سياق قصة موجهة، في ما يشبه -إلى حد كبير- الدراما التاريخية التي يتم إنتاجها -اليوم- لتؤدي غرضاً اجتماعياً أو سياسياً معيناً. هذا في جملة أمر الولاية التي تأتي بمعنى الحكم والمرجعية السياسية، وفي تفاصيلها سنتطرق للكلام عن محطتين مهمتين في التاريخ الإسلامي، هما: اجتماع «الغدير»، واجتماع «السقيفة»، لنكشف بذلك أنها أحداث طبيعية وقعت في الجُملة، ولكن كثيراً من القِصص والتفاصيل أفرغت فيها؛ لتجبرها على السير حيثما تريد أحزاب الدين السياسي، بمختلف اتجاهاتها.
محمد عزان
دردشة في الولاية 2 953