بعد أن لازم المداعة في ديوانه خافت الإضاءة على مدى أكثر من أربعين عاماً تقريباً ها هو اليوم يجلس أمام مقهى "Dal" في دمان ساراً التابعة لولاية سيلانجور الماليزية يدخن سيجارة هزيلة.. انحناءة ظهرة تبدو طبيعية في مثل هذا العمر، لكن الغريبة هي انحناءة قامته باتجاه اليمين تنبئ أن مولعياً قد أَتْكَأَ على جنبه لعقود غير آبه بالنهايات. هذه الحرب أخرجته مثل غيره أيضاً "لينفخ" ويشم الهواء بدلاً عن "ثاني أكسيد المداعة".. شردته، نعم لكنها منحته فرصة للضياع في أواخر عمره في هذا العالم. لهذه الحرب بعض من فوائد كالتشرد في مرحلة السأم بعد الثمانين حولاً على رأي زهير حينما قال: "سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ. وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ" وكذلك السياحة في أرض الله الواسعة. هممت أن أسأله إن كانت هذه السيجارة تغنيه عن سماع صوت القرقرة التي تصدرها المداعة، وهل دخانها يملأ رئتيه بعد عقود من التعود على دخان قصبة المداعة الكثيف. يداه المرتعشتان يكسوهما جلد هزيل على بقايا عظام أتى عليه الزمن مازالتا قادرتين على التحرك وإمساك وإشعال سيجارة، يا له من محظوظ بين أقرانه، سواء الذين رحلوا إلى الملكوت أو الذين رحل عنهم هرباً من فتنة عبد الملك أخزاه الله وأنصاره. لا أعلم ما الذي كان يجب أن يفعله في صباه، لا يحسن بي التفكير نيابة عنه، هل كان يردد "وسيبقى نبض قلبي يمنيا" مثلنا في أعياد الثورة؟ وهل فرح بالتئام شطري اليمن السعيد؟! لو كنت مكانه ماذا كنت سأفعل؟ هل سأعلن تأييدي لعبد الناصر في الصباح وسألعنه كل عشية في الطيرمانة دون أن يدري أحد. السلال ذهب والإرياني تم الانقلاب عليه بنجاح، والحمدي قتل ومجلس الشعب التأسيسي أقر تعيين تيس الضباط رئيساً للبلاد، وجاء هادي أخيراً وقام بإعادة ضبط المصنع فعاد الوطن إلى "حضن البولة"، أيها الرجل المعجزة ماذا تفعل هنا هل عجزت عنك كل المصائب؟ -لكل عمره يا ولد لا تستكثر هذا البقاء النحس، "إنا أضعنا الصباح.." هكذا قال الرجل الثمانيني دون أن تصدر عنه آه واحدة، فالآه لا يقولها الرجال مهما حلت المصائب. لا تعترف وحدك "يا شيبة الجن" فلنعترف جميعاً بذاك الجرم، فكيف ضاع منا الصباح؟ هناك تبتدئ الحكاية وكلما سبق ليس سوى بعضاً من نهايات غير سعيدة. -لديَّ سؤال أخير؟ قال الرجل. قلت هاته، فقال: هل سأعود حتى جثة محمولة إلى الوطن؟ قلت له: لا.. ما زالت الأمور مطولة والحروب لا تنتهي بسرعة خاصة إذا "تطيفت" قال من طيفها قلت أنتم جميعاً! قال كيف؟ قلت حافظتم على كل مخلفات الماضي كما هي، فكان الطوفان.
فيصل علي
ثمانيني مشرد 1051