استوقفتني على أحد الأرصفة وأنا أسير في طريقي، وسألتني عن وكالة طيران قيل لها إنها في هذا الشارع.. أخبرتها أن المكان قريب وأشرت إلى الطريق فسارت قربي وهي تتحدث قائلة: _ أريد أن أحجز مقاعد للسفر إلى القاهرة؛ ولا أدري كيف أو من أين؟ قلت لها: هذه الأمور يجب أن يقوم بها زوجك أو ابنك أو قريب لك، حتى لا تقعي فريسة للدجل والنصب؛ ما ينفع تخرجي تبهذلي نفسك يا والدة فيما لا تعرفين. فتنهدت بحسرة قائلة: ما أحد بيرضى يا ولدي؛ أنا معي ولدين وبنت ما حصلتهم إلا بعد عمر وترملت عليهم؛ الحين أخي يشتي يجندهم مع السيد؛ وهم قالوا ما بلا يجاهدوا وما معي إلا هم وربي؛ قد بعت أرض بعد أبي لإبن عمي وما أحد داري لأجل أسافر بأولادي. قلت أخذهم وأهرب من هذه البلاد؛ أقلهم ندخل مصر والسبب أتعالج وهم معي وبعدا والله ما يرجع واحد هنا يموت وهو بخيرة شبته. قد خلصوا عيال القبائل وتموا بعيالنا. من حديثها عرفت أنها أم من تلك السلالة الهاشمية تريد أن تنجو بأولادها من أتون الحرب التي أشعلها زعيمهم.. السيد كما تتحدث عنه بتفخيم. حتى الأسر الهاشمية تجأر من تسلط رؤوسها على أذيالها. هي أم ترى مئات من أبناء الهاشميين يذهبون إلى الجبهات ولا يعودون؛ فخافت على أبنائها المتحمسين للجهاد. رأت أن أبناء القبائل أوشكوا أن ينتهوا فداء للسيد، وما زالوا في نظرهم قبائل أدنى منهم وهذا واجبهم نحو السيد. لكن الأمر مقلق ومخيف حين يبدأ أبناء الهاشميين بالانقراض. هي أم تفتقد ذلك الحذر الذي تنامى بين الناس والنساء خاصة فلم تعد النساء تثرثر في مجالسهن بآرائهن أو توجهاتهن السياسية خوفاً من نشوب معارك كلامية بين الأطراف في المجالس تصل إلى رؤوس الرجال. لم تعد تحدث صدامات المؤتمريات والاصلاحيات حتى يتصاعد "شطط" المعارك الكلامية. الآن لا صوت يعلو فوق صوت السلاح والعنجهية والجهالة. أصبح الوطن أشبه بسفينة مثقوبة تغرق ومن يملك طوق نجاة قفز منها. لم يعد الهروب من الوطن قاصراً على الفارين من الملاحقة فقط. أصبحت كثير من العائلات الميسورة تترك وطنها اختياراً هروباً من جحيم الحرب وتبعاتها، فالحياة فيه أسوأ من الغربة.. وليست كل الأسر قادرة على النزوح لدول بعيدة تنعم بالاستقرار وتتوفر فيها متطلبات الحياة كالماء والكهرباء مع غلاء معيشي نسبي بدلاً من غلائنا الفاحش.. فحتى النزوح طبقي أيضاً، هناك نازحي الخيام والعراء، وهناك نازحي الشقق والفلل الفارهة! موجة عجيبة من الهجرة بسبب الفأر ذاته الذي فرق أيادي سبأ.
فكرية شحرة
الهروب الكبير 910