من يعتقد أن مشكلة تعز خلال الثلاث السنوات الماضية هي الحوثي، وبقايا قوات النظام السابق فهو مخطئ، صحيح أن الحوثية مثلت الجبهة أو العدو الأبشع في هذه المعركة، والطرف المُسرف في محاولة خلق أو إيجاد واقع أفلت من بين يديه؛ ولم يعد من السهل إعادة بنائه، لا بالقوة المفرطة، ولا بالقوة الناعمة.
هذه المعركة التي لا تستحقها تعز أبداً، تُعد مخاضاً عسيراً لوطن بأكمله، بل فاتورة يدفع ثمنها؛ هذا التنوع الذي تشبعت به هذه المدينة، التنوع ذاته الذي فشل في محطات عديدة، وتحديداً خلال السبع سنوات الأخيرة؛ في وضع النقاط على الحروف بسبب ارتباطات قبلية وإقليمية للأسف، برغم أنها كانت فرصة لإعادة التوازن، وبناء نموذج يحتذى به، لذا من يتابع سير الأحداث في هذه المدينة، سيجد أنها تتعرض للعقاب من كل الأطراف، والأحزاب، والمكونات، وحتى من الإقليم الذي يدير معركته هناك بصورة تبعث على الأسى.
اليوم يتم التعامل مع تعز من قبل الأشقاء لاعتبارات وحسابات عديدة، وكذلك من الشرعية المتمثلة بعبد ربه، ومن الجنوب؛ بحساب رجعي، ونظرة مستقبلية غير عادلة.
تعز تعددت فيها الحسابات، ففي حين أنها خليط من شرعب، والمخلاف، وشمير ومناطق العدين واب، والحجرية، وصبر، والمناطق الشرقية من جهة الحوبان، فإن كل هذا التنوع هو بحد ذاته عقاباً يدركه البعض، ويتجاهله البعض الآخر، فيما الطرف الثالث يحاول طمسه أو تجاوزه إلى بقع أقل رمادية دون إيجاد المخارج.
في ظل هذه الحسابات المتناقضة والمتعددة، وعدم فهمها، فإن الشهداء والقتلى والدمار، كل ذلك سيبقى ملتصق بهذه المدينة، ما لم يتجانس هذا التنوع تماماً، كرد اعتبار للضحايا الذين سقطوا، ولتاريخ المدينة الزاخر بالأحداث والريادة.
تعز اليوم تعاقب كأيديوليجة دينية، وايديولجية حزبية يسارية، وتنوع بشري وديموجرافي مذهل، وموقع استراتيجي يهدد من خلال باب المندب؛ موانئ بعض دول الجوار بحسب تفكيرهم وقراءتهم للمستقبل الذي يستبقون أحداثه بألغام كارثية.
تعز تعاقب ليس لأنها ضالعة بشكل مباشر في أحداث فبراير 2011م، تعز ستظل تعاقب حتى بعد انحسار الحوثي، لأن أدواراً ما تزال تنتظرها غير التي تمت وأدت إلى كل هذه المآسي، وأظن أن الفكرة وصلت ولا تحتاج لتفصيل أكثر.
عموماً. إذا لم يخلق شكل الدولة القادم تجانساً فعلياً وملموساً، في الرؤى والطموحات، والقرارات؛ بين أبناء المدينة والبلد الواحد، فإننا سنبقى محل تجاذبات، وسيبقى الآخر شماعة نعلق عليه آمالنا وأخطاءنا.
إذاً نستطيع القول بدون الجزم، بأن المشكلة ليست في (ذي يزن، ولا الإمامة، ولا صالح، ولا هادي) كل هؤلاء مجرد أدوات حضرت في مرحلة زمنية معينة، ساعدت على بقاء الحال بحسب التصورات والظروف المحيطة، المشكلة في إرادتنا المجتمعية المعقدة، التي عجزت عن بلورت أشخاصاً جيدين وواقعا ناضجا، وثقافة قانونية ملزمة للجميع، وعجزت عن مناوئة جيراناً معتوهين ومصابين بفوبيا الخوف من الآخر.
المشكلة في النخب السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والدينية؛ التي تشتت بين هذا وذاك ولم تجعل الوطن وإنسانه نصب عينيها.
خلال الثلاثة عقود الماضية كم مسؤولاً قدم استقالته؟ وكم شخصية اجتماعية اعترضت بصدق وهي تدرك أنها نظيفة من أي فساد؟
كل الذي شاركوا في السلطة من بعيد أو قريب، سواء كانوا صناع قانون أو متفرجين صامتين، كانوا يسيرون على قاعدة ""ما بدا بدينا عليه""، لدرجة أن أغلب إن لم يكن كل قرارات الحكومات المتعاقبة كانت تتخذ في مقايل القات، بحسب التقارير التي أكدت ذلك.
اليوم نحن نجني ثمرة صراعاتنا الداخلية التي لم تكن هدفها الوطن إلا شعارات، نجني ثمن.
ارتباطاتنا الواسعة مع الآخر بصورة مهينة، اليوم نحن نجني ثمرة التشبع بالأفكار إلى درجة نسيان الأرض؛ التي ولدنا عليها وفيها، اليوم نحن نجني ثمن المشاريع التي توهمنا أنها من صلب تفكيرنا وحياتنا ومستقبلنا.
إن هذا الفراغ الذي ملأته جماعات لا علاقة لها بالحياة، هو نتاج توجهاتنا التي لم تلتقي يوماً من أجل هذا الإنسان؛ الذي يموت جوعاً وعلى مرأى ومسمع للأسف.
لقد انكشف عَتادنا وجهودنا، واتضح أنها كانت فخاخاً لمستقبل مجهول، وما التباينات الشديدة اللهجة التي تنشر اليوم، إلا جزءا من ذلك العتاد المُسطح، الذي بنينا عليه ثقافتنا وآمالنا.
اليوم انقسمنا إلى فسطاطات لا أول لها ولا آخر، ولا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا بالتعايش الحقيقي، المبني على العدالة، والسيادة، والولاء للأرض والإنسان.
وأخيراً هناك إجماع كبير على أن تخرج هذه المدينة مما هي فيه، سيغادر الحوثي المدينة والمشهد ربما كجماعة غير مقبولة، ضيعت أهم الحواضن الجغرافية لها مقابل استعداء الناس، بأعمال بشعة.
أمام تعز اليوم فرصة يُظهر فيها أبناءها إخلاصهم وولاءهم للمدينة، للخروج من بوتقة الصراع بأكثر من صورة، كي يعود الاستقرار إلى كامل المديريات والقرى والمدينة.
وأمام الحوثي التخلي عن مشروعه الكارثي الذي لا يتجانس حتى مع العقل.
كل شيء أصبح واضحاً، سواء ما يتعلق بالتحالف أو بالصراع الداخلي الداخلي، ولا داعي للتمترس خلف قرارات لا تخدم البلد أبداً ولا مستقبله.
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، صدق الله العظيم.