أصيبت الولايات المتحدة الأميركية ومعها دولة الكيان الصهيوني بالسعار والجنون، بعد الصدمة التي شكلها التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي مس قداسة القدس ومكانتها، وهدد مستقبلها وعبث بهويتها الحضارية والدينية، وقرر نقل ملكيتها اعتباطاً وتغيير سيادتها ظلماً، عندما اعترف بها عاصمةً موحدةً للكيان الصهيوني، وقرر نقل سفارة بلاده إليها، دون مراعاةٍ للحق أو التزامٍ بالقانون، ولكن تصويت أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة بالغالبية العظمى ضد قراره، وتأكيدهم على الاحتفاظ بوضعية المدينة المقدسة وعدم المساس بها، التزاماً بالقرارات السابقة لمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، أحرج الإدارة الأميركية وعزلها، وانتقد السياسة الأميركية وحشرها، إذ لم يقف معها غير سبعة دولٍ مجهريةٍ لا تكاد تبين ولا يعرف باسمها أحدٌ بالإضافة إليها والكيان الصهيوني.
استشاطت الحكومة الإسرائيلية غضباً وأصيبت بالخبل والذهول، وخرج الرئيس الأميركي ترامب عن طوره، وبدأ يصرخ ومندوبته في الأمم المتحدة دون وعيٍ وإدراك، وبلا تمييزٍ وتقديرٍ، وصار يتخبط في تصريحاته المتضاربة كالغِر عديم الخبرة، وكالجاهلِ فاقدِ المعرفة، وتبعه رئيس حكومة الكيان وأعضاء حكومته في هستيريا عنيفة، وحمى شديدة الوطأة، أدخلتهم جميعاً في حمأةٍ آسنةٍ أربكتهم، وفي فوضى عارمة أفقدتهم التوازن والتركيز، إذ هددوا الدول والحكومات التي أيدت القرار وعارضت الإرادة الأميركية والرغبة الإسرائيلية، بقطع المساعدات عنهم، ووقف تمويل مشاريعهم، ومعاقبتهم بشدة على سلوكهم، وعدم التهاون في التعامل معهم.
وامتدت التهديدات الأميركية والإسرائيلية المجنونة، التي حملت شبهة الثأر والانتقام والعقاب والقصاص، لتطال المؤسسات الدولية والمنظمات الإقليمية ومؤسسة الأمم المتحدة، حيث تهكم الطرفان بهذه المؤسسات، واستخفوا بجديتها، واتهموها بالتبعية والذيلية، وأنها منحازة وغير عادلة، وأعلنا نيتهما الانسحاب من بعضها، وعدم تمويل الأخرى منها، وأكد الرئيس الأميركي عزمه تقليص مساهمة بلاده في ميزانية الأمم المتحدة، التي وصفها بأنها نادي العاطلين، واعتبر أن قراراتها غير مسؤولة، ولا يجب الإصغاء لها أو الاهتمام بها، وهي نفس الشعارات التي رفعها إبان حملته الانتخابية الرئاسية، والتي أكد أنه سينفذها في حال فوزه، وما نراه اليوم ليس إلا ترجمةً دقيقة لشعاراته الانتخابية التي هي ثوابته السياسية.
أما حكومة الكيان الصهيوني فقد كانت قبل القرار غاضبةً جداً من منظمة التربية والعلوم والثقافة "الأونيسكو"، التي سبق لها أن أصدرت أكثر من قرارٍ يدين الكيان الصهيوني، وينفي السيادة اليهودية على الأماكن المقدسة في مدينة القدس، في الوقت الذي أكدت فيه السيادة الفلسطينية عليها، الأمر الذي أغضب الإسرائيليين وأزعجهم، فأطلقوا سلسلة من التصريحات المنددة بهذا القرار، والرافضة لسياستها، وأكد رئيس حكومتهم نيته الانسحاب منها وعدم المشاركة في اجتماعاتها ولقاءاتها الدورية، أسوةً بقرار الإدارة الأميركية الذي قضى بالانسحاب من عضوية الأونيسكو، والذي وصفه نتنياهو بأنه قرارٌ أخلاقي شجاعٌ وجريءٌ.
تكرر موقف الحكومة الإسرائيلية نفسه مع منظمة اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة "الأسكوا"، التي أصدرت رئيستها ريما خلف تقريراً يصف ممارسات سلطات الاحتلال بالعنصرية، ويطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتمكين أهلها من تأسيس دولتهم وتقرير مصيرهم، ورغم إصرار الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريوس على سحب التقرير والتراجع عنه، إلا أن التهديدات الإسرائيلية والأميركية للمنظمة التي خضعت لها واستجابت لشروطها وسحبت تقريرها بقيت على حالها، ولم يخفف منها إلغاء التقرير واستقالة المديرة التنفيذية العامة، الأمر الذي يشير إلى تفاقم الانحياز الأميركي المطلق لصالح الكيان الإسرائيلي في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب.
يبدو أن الإدارة الأميركية ومعها حكومة الكيان الإسرائيلي سيمضيان قدماً في مشروع الانسحاب من المنظمات الدولية، وتقليل الاعتماد على منظمة الأمم المتحدة، وعدم اللجوء إليها أو القبول باللجوء إليها لحل أي مشكلة دولية، والاكتفاء بالمواقف السيادية لها، التي تعتمد على القوة والنفوذ في فرض القرارات التي تريد، وتمرير السياسات التي ترى وجوبها، وذلك لإحساسهما بأن المجتمع الدولي يتجه لرفض سياستهما، ويتجرأ في الاعتراض على قراراتهما، الأمر الذي سيحرجهم وسيعمل على عزلهم، إذ لم يعد من الممكن دولياً القبول بالممارسات الإسرائيلية، أو باستمرار احتلال الأراضي الفلسطينية، ومنع الفلسطينيين من تقرير مصيرهم وتأسيس دولتهم، وقد تكون الخطوة الأميركية القادمة تجاه مجلس حقوق الإنسان، التي ستبادر بالانسحاب منه بعد الإهانات التي تعرضت لها فيه، والانتقادات التي تلقتها من كثيرٍ من الدول الأعضاء، والملفات والقضايا التي أثارها أعضاء المجلس التي تُعتبرُ الولايات المتحدة الأميركية طرفاً فيها ومتهمةً بها.
بالمقابل فإن فلسطين قد حصدت نتائج التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولمست درجة التأييد الدولي لها رغم حملات الترغيب والترهيب، والضغوط والتهديدات الأميركية لكل دولةٍ تخرج عن بيت الطاعة، حيث أن دولاً كثيرة رفضت الخضوع لمنطق الابتزاز المادي، والمقايضة على المبادئ والأخلاق مقابل الدعم المادي والوعود السرابية، وأبدت استعدادها الكامل للتصويت لفلسطين في كل المحافل الدولية والمؤسسات والمنظمات الأممية، ولعل الأصوات التي ستنالها في أي تصويتٍ قادمٍ سيتجاوز ما نالته في التصويت الأممي على مستقبل القدس وما حصلت عليه في قرار منظمة الأونيسكو.
ينبغي على السلطة الفلسطينية أن تكون جادةً في تهديداتها، وصادقةً في وعودها، ومخلصة في الدفاع عن شعبها وحماية مقدساتها، وتمضي قدماً في الالتحاق بالمؤسسات والمنظمات الدولية، دون خوفٍ من الضغوط الأميركية والتهديدات الإسرائيلية، وعليها أن تستفيد من الأجواء العامة والمناخات التي وفرها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي يشكل بالنسبة إلى فلسطين قاعدة انطلاقٍ جديدة، ومنصةً أخرى للعمل الوطني الجاد والمثمر، فالقدس تنتظر منا المزيد من الحراك الدولي والنشاط الدبلوماسي، إلى جانب الحراك الشعبي ومسيرات التضامن ومظاهرات التنديد الدولية.
يتبع ....