هل تضيع القدس وخلفها ثمانيةٌ وأربعون دولةً إسلاميةً، يقودها ملوكٌ ورؤساء، وسلاطينٌ وأمراء، يسكنون القصور ويعمرون المصايف ويتنافسون في البنيان، ولدى بلادهم جيوشٌ جرارةٌ وأسلحةٌ وعتاد وصواريخ بعيدة المدى وقنابل ذرية ومفاعلاتٌ نووية، وتجري جيوشهم مناوراتٍ عسكرية دورية، وتشتري صفقاتِ أسلحةٍ بمليارات الدولارات، وتعتد بأنظمتها وتفخر بأوطانها، وتتباهى بأرضها الممتدة وبلادها الفسيحة، وثرواتها الكبيرة، ونفطها الذي ينعب ولا ينضب، وخيراتها التي تفيض على غيرها وينعم بها سواها.
هل تفرط الدول الإسلاميةُ بالقدس وعندها منظمةٌ عريقةٌ تأسست من أجلها، وتكونت للدفاع عنها، وتشكلت لتكون لها درعاً وحصناً، وسنداً وعوناً، والتأم تحت سقفها أكثر من خمسين دولةً إسلامية، اجتمعت لأول مرةٍ عندما حرق مستوطنٌ صهيوني أسترالي المسجد الأقصى عام 1969، وتعاهدت حينها على الدفاع عن القدس والأقصى، وحمايته وتحصينه ومنع تهويده والسيطرة عليه، وشكلوا لهدفهم لجنةً وسموا لها رئيساً وأفردوا لها ميزانية، وكلفوها بدورٍ وأسندوا إليها مهماتٍ كبيرة، وانتظروا نتائج عملها وثمرة جهودها.
وهل يتلوث شرف القدس وهو الرفيع المقدس، الطاهر النقي المنزه، الذي تهون دونه الأرواح وتجود من أجله الدماء، وخلفها مئات ملايين المسلمين الذين يعشقونها ويؤمنون بها، ويتطلعون لفدائها والتضحية في سبيلها، ويتوقون إلى اليوم الذي تعود إليهم حرةً مستقلةً، ويكونون فيه أحرار بزيارتها والتجوال فيها، وزيارة مسرى رسولهم الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، والصلاة في المسجد الذي صلى فيه إماماً بالأنبياء والرسل عليهم السلام، والمرور بحائط البراق الذي عرج منه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى ومنها إلى سدرة المنتهى.
أم أنها تغتصب أمامهم جميعاً وفي حضرتهم، وقادتها يتفرجون، وحكامها يتآمرون، وملوكها يتسترون، وأمراؤها يتهامسون، فلا يثورون من أجلها، ولا يهبون لاستنقاذها، ولا ينتفضون غضباً لها وغيرةً عليها، بل يتركونها للمحتل فريسةً يستفرد بها ويستولي عليها، ينهش عرضها وينزع عنها أثوابها الأصيلة، العربية الإسلامية القديمة، ويستبدلها بيهوديةٍ غريبةٍ، وصهيونيةٍ جديدةٍ، تزور التاريخ وتدلس الروايات، وتبدل الوقائع والشواهد بما يخدم هدفها ويحقق مرادها، ويعينها على جرمها غربيٌ حاقدٌ وعربيٌ جاهلٌ ومسلمٌ غافلٌ.
هل يخيب القادة المجتمعون آمال الأمة، ويسقطون رهانهم عليهم، وينفضون أيديهم منهم، ويعودون من استانبول، وقد اكتفوا بالصورة التذكارية التي تجمعهم، وهم يطأطئون رؤوسهم خجلاً وخزياً، ويمسكون بأيديهم خوفاً وجزعاً، ويجرون أذيال الخيبة، ويتلفحون بأثواب العار، ويقبلون بقرار الدولة السيد والرئيس الكاوبوي المتهور، ويذعنون له خوفاً ورهباً، أو يتوسلون إليه أملاً ورجاءً، ويجلسون في قصورهم ينتظرون العطاء الأميركي والمنحة الموعودة المسماة بصفقة القرن، علَّ فيها بعض ما يستر عوراتهم، ويحفظ ما تبقى من ماء وجوههم، وبالمقابل يطالبون شعوبهم بالهدوء والتعقل، أو يقمعونهم بالقوة ليسكتوا، ويواجهونهم بالقسوة والعنف ليخنعوا.
أم يستجيبون إلى خيارات الشعب والأمة، ويلبون آمالهم ويحققون رجاءهم، فيقطعون علاقاتهم بالولايات المتحدة الأميركية إلا أن تتراجع عن قرارها، وتعتذر إلى الأمة عما ارتكبت في حقها، ويرفضون استقبال أي مسؤولي أميركي مهما علت مزلته وسمت مكانته، ويمتنعون عن زيارة عاصمة بلادهم، ويجمدون أي تواصلٍ معهم أو اتصالٍ برئيسهم، ويضيقون على طواقمهم الدبلوماسية، ويحصرون أنشطتهم العامة في سفارتهم بحدود القانون الدولي، وليسمحوا لشعوبهم بالتظاهر أمام سفاراتهم، ونقل الرسائل الغاضبة إليهم، والتعبير أمامهم عن حقيقة شعورهم وعمق ألمهم، ليعلموا أن الأمة حرةٌ لا تقبل المساس بشرفها ولا العبث بحرماتها، ولا تسكت عمن يعتدي عليها، ولا تقبل أن يتكرر التاريخ بوعودٍ جديدةٍ وتعهداتٍ مشؤومةٍ أخرى.
ربما على السلطة الفلسطينية أن تسبق الجميع بموقفها، وأن تضرب للكل مثلاً على جرأتها، فتتخذ قراراً بقطع علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية، وتعلن رفضها لدورها في المفاوضات، ووساطتها في الحوارات، كونها طرفاً معادياً، ودولةً منحازة، وترفض تلقي أي معونةٍ منها أو مساعدةٍ من طرفها، فالحر الكريم يترفع عن كسرة الخبز الممزوجة بالذل والملوثة بالعار، ولا أرى شعباً أعز وأنبل من الشعب الفلسطيني الذي يخوض غمار المقاومة، وينتقل من ثورةٍ إلى انتفاضةٍ، ومن مواجهةٍ إلى معركةٍ، ولا يتعب ولا يمل، ولا ييأس ولا يقنت، بل يصر بيقين على النصر، ويمضي بعنادٍ إلى الحق.
لم يفت الوقت بعد ولم يتجاوزنا الزمن، بل ما زال أمامنا ما نفعله، وعندنا من الإجراءات الكثير التي نستطيع القيام بها، والتعجيل الجاد بتنفيذها، لنقطع الطريق على نتنياهو الساخر من القمة، والمستهزئ بقراراتها، إذ تحدى المجتمعين وتهكم على المشاركين، ووعدهم بمزيدٍ من الدول والحكومات التي ستعترف بالقدس عاصمةً أبديةً للدولة العبرية، وادعى أن الاعتراف لن يقتصر على الولايات المتحدة وعدة دولٍ أخرى، بل إن دولاً أخرى ستتسابق إلى الاعتراف بالقدس عاصمةً لهم، فهل نلقمه في فمه حجراً فنخرسه بإرداتنا، ونعجزه بفعلنا، ونثبت له أننا نستطيع أن نمنعه وأسياده، وأن نصده ومن سانده وأيده ووالاه.
على قادة الدول الإسلامية أن ينظروا إلى شعوبهم، وأن يراقبوا أفعالهم، وأن يؤمنوا بقدراتهم، وأن يفتحوا المجال لهم، وألا يغلقوا الأبواب في وجوههم، وألا يهدروا طاقاتهم، وألا يخونوا دماءهم أو يفرطوا في تضحياتهم، وألا يقمعوا إرادتهم، فشعوبهم صادقةٌ، وأمتهم واثقةٌ، ورجالهم شجعانٌ، وأبناؤهم أبطالٌ، ونساؤهم ماجداتٌ، وقد خبرهم العدو وعرفهم، وأدرك بأسهم وتجرع كأسهم، وبات يخشى مواجهتهم، فليثقوا في قدرتهم على انتزاع النصر واستعادة القدس، وصون الشرف وحماية الأوطان، فأبناؤهم أحفادُ عمر وخالد، وأبناءُ سعد وطارق، وأتباعُ جعفر والحارث، وورثةُ عليٍ ومحمد، صناعُ النصرِ وروادُ المجد.
يتبع ...