إنه قدر أهل غزة دوماً الذي لا تتبرمُ به ولا تشكو منه، والذي تؤمن به وتسلم له، وترضى به ولا تضج بسببه، وواجبها أبداً الذي لا تتأخر عنه ولا تهرب منه، ولا تخشى حمله ولا تنأى بنفسها عنه، بل تسرع لمواجهته وتهب للتصدي له، غير آبهةٍ بالصعاب، وغير خائفةٍ من الأهوال، إذ لا تحسب شيئاً صعباً ولا تخال أمراً مستحيلاً، ولا تظن أن عدوها عنيداً، بل تراه خائفاً رعديداً، ولا تشك في أنه خوارٌ جبانٌ، لا يثبت أمام الرجال، ولا يصمد في مواجهة الشجعان، حتى بات الجميع يعرفها غزة المقدامة، ويدرك أنها شجاعة وفي النوازل فعالة، وأنها سباقةٌ دوماً قبل الكل، ومندفعةٌ أكثر من الجميع، ومتحديةٌ كأنها الكلُ، فأهلها صِيدٌ بيضُ الفِعال، وأباةٌ كماةٌ جِيدُ القتالِ، وغيارى أعزةٌ سادة الرجال، فطوبى لمن جاورهم أو كان منهم، وهنيئاً لمن ولد فيهم وعاش بينهم، إنهم طلائع السرايا ورواد المنايا، يقطفون الكرى من العيون إحساناً وتوفيقاً، ويزرعون الأمل ورداً ورياحينَ، ويغرسون الغد زيتوناً ونخيلاً.
أهل غزة فقراء معدمون، ومحاصرون معذبون، وحزنى متألمون، فيهم الأسرى والمرضى، وبينهم الشهداء والجرحى، حياتهم بؤسٌ وقهرٌ وعنتٌ، وألمٌ وحرمانٌ ووجعٌ، يعانون من ضيق العيش وقسوة الحياة، وظلم الجار واعتداء العدو، جيوبهم خاوية، وأيديهم خالية، وأعمالهم معطلة، وحياتهم معقدة، وأدواء الكهرباء كثيرة، تنعكس على كل شيء في حياتهم، حتى نومهم بات بدونها مبكراً، وسهرهم في ظل انقطاعها متعذر، وعلاجهم من أمراضهم في غيابها متعسر، فاستعصى الشفاء لما تعذر العلاج ونذر الدواء، وعجز الأطباء عن إجراء العمليات وتشغيل المختبرات وإتمام الفحوصات، وغير ذلك الكثير مما يشكو منه سكان القطاع.
إلا أن معاناتهم لا تمنعهم من مشاركة شعبهم وأمتهم في هبة القدس الجديدة، بعد أن ساهموا معهم في انتفاضة باب الأسباط، التي أجبرت سلطات الاحتلال على التراجع والانكفاء، وها هي اليوم تهب قبل غيرها، وتواجه أكثر من سواها، تمسكاً بالقدس وحفاظاً عليها، ورفضاً للقرار الأميركي واستنكاراً له، ونضالاً من أجل إسقاطه، ومقاومةً في سبيل استعادة مدينة القدس وكل الأرض الفلسطينية، فكانوا في هبتهم اليوم رجالاً وفي مواجهتهم شجعاناً، ورغم أنه يفصل بينهم وبين العدو أسلاكٌ ومسافاتٌ، إلا أنهم تجمعوا قبالته وفي مواجهته، تحدياً له واستخفافاً به، غير عابئين برصاصه الذي يتناثر فوق رؤسهم ويخترق أجسادهم، فيقتل بعضهم شهداءً، ويصيب العشرات غيرهم إصاباتٍ متفاوتة، تخلف فيهم عاهاتٍ مستديمةً، أو أمراضاً يصعب علاجها ويتعذر بسبب الحصار والحرمان الشفاء منها.
قدم أهل غزة حتى سادس أيام القرار المشؤوم ستة شهداء وعشرات الجرحى، بعضهم ارتقى شهيداً خلال عمليات المواجهة والتحدي، على أطراف القطاع وفي مواجهة جنود الاحتلال، وآخرون سقطوا في الرباط، وهم في مواقعهم العسكرية يرصدون ويراقبون، ويتأهبون ويستعدون، فأغار عليهم العدو بطائراته وقصفهم بصواريخه، فسقط عددٌ من الشهداء الشبان والمقاومون الأشداء، الذين نذروا أنفسهم وأرواحهم من أجل القدس، وقضوا حياتهم من أجل فلسطين الأرض والوطن والمقدسات.
ما يقدمه الغزيون في قطاعهم الحبيب المحاصر إنما هو جزءٌ يسيرٌ مما يقدمه الفلسطينيون جميعاً في الوطن والشتات، بل لعله أقل ما يُقدمُ من أجل القدس وفداءً للأقصى، ودفاعاً عن هوية المدينة ومقدساتها، وفيما يقدمونه رسائل متعددة الاتجاهات وعديدة العناوين والمضامين، فهم يقولون للرئيس الأميركي ترامب وإدارته، أن القدس عربيةٌ فلسطينية، وأننا لن نتخلى عنها ولن نفرط فيها، ولن نخضع للقرار ولن نستجيب له، ولن نعتبره أمراً واقعاً وحدثاً قد مضى وسبق وتم البناء عليه، وهي تحذيرٌ له ولكل المتآمرين على قضيتنا ووطننا، أياً كان لبوسهم أو لغتهم، وبغض النظر عن دينهم وعرقهم، إننا لن نتسامح مع من يتاجر في قضيتنا، ويبيع وطننا، ويفرط في شبرٍ من أرضنا وحقوقنا.
إنها رسالةٌ مدويةٌ واضحةٌ لا لبس فيها ولا غموض، وصريحةٌ مباشرةٌ لا تخطئ الهدف والقصد، إلى القيادة الفلسطينية كلها، السلطة والفصائل وأعيان الشعب ورموزه، وكل من تحدث باسم الشعب الفلسطيني وتقدم حاملاً رايته، أن القدس غالية، وأن فلسطين عزيزة، وهي تستحق منا كل تضحيةٍ وفداء، وفي سبيلها تهون المهج والأرواح، وترخص الأنفس والأموال، فلتتمسكوا بها ولا تفرطوا فيها، ولا تساوموا عليها ولا تتخلوا عنها، ولا تفاوضوا العدو عليها، ولا تقبلوا بأنصاف الحلول ولا بالوعود الكاذبة المعسولة، وأصروا على أن القدس لنا عاصمةً موحدةً أبديةً، وفلسطين لنا دولةً ووطناً على كامل ترابنا الوطني وحدودنا التاريخية، وإليها جميعاً سنعود وفيها سنعيش، ونقيم عاصمة دولتنا فلسطين الحرة العزيزة المستقلة.
غزة تقول لشعبها الفلسطيني كله أنها معه في المواجهة، وتسبقه في المقاومة، وأنها كما كانت يوماً مبتدأ الانتفاضة وأصل المقاومة، فإنها اليوم ستمضي معهم على ذات الدرب، وستسير على نفس الطريق، وكلها ثقة ويقين بأنها ستصل وشعبها إلى الهدف المنشود والغاية المرجوة، والعدو يعرف ذلك عنها، ويحذر المواجهة معها، ولكنه يريد بما يرتكب من اعتداءاتٍ أن يحرف الأحداث، وأن يصرف الأنظار عن قضية القدس والقرار الأميركي المشؤوم في حقها، لكن غزة التي أفشلت حروبه، وأبطلت حملاته، لهي اليوم قادرة بوعيها وإرادتها، وصدقها وثباتها، أن تفشل العدو من جديد، وأن تجعل قضية القدس هي الواجهة والعنوان، التي عليها تلتقي الجهود وتتوحد الإرادات وتتفق السياسات.
يتبع....