اليمن التي كانت في عصورها الزاهية مصدر إشعاع وعلم ونور؛ صدَّرت القيم العربية من قبل الإسلام إلى بقاع كثيرة من بقاع الأرض، ولم تكن مملكة أكسوم والتي كان مقرها على سفح جبال عدوة شرق إقليم تجراي باثيوبيا والتي ترجع حسب بعض القراءات التاريخية إلى مملكة سبأ، فكانت محاكاة حضارية معمارية واضحة لمملكة سبأ؛ والتي شيدها وبناها اليمنيون النازحون إليها لاحقاً في عصور مختلفة تباعاً، كما اتسعت بصمات الأيادي اليمنية في بقاع شتى في أفريقيا وصولاً إلى الأندلس، ولازالت مآثر اليمنين وقلاعهم التي سميت بأسماء قبائلهم شاخصة حتى اللحظة.
أما الوجهة الشرقية لليمنيين فكانت حصرية تبناها أبناء قبيلة كندة اليمنية، أبناء حضرموت اليمن التي أنجبت الشعراء العرب والعلماء والقادة الفاتحين، الذين طفحت بهم كتب التاريخ وسجلاته. حضرموت الشرق والغرب رواد التجارة والمال.
نعم حضرموت التي كانت ولازالت عبارة عن خزان بشري تدفع بأبنائها للهجرة نتيجة لظروف طبيعتها القاسية، فكانوا يركبون البحر تحفهم رياح السفن وأينما اتجهت ساقتهم معها وأينما وصلوا أفرغوا حمولتهم، وحلوا فاتحين البلدان بأرواحهم المشرقة بنور الإسلام، وتعاملاتهم الراقية المرتكزة على قيم العروبة والدين والأصالة.
لم يحملوا معهم السيوف؛ بل حملوا المصاحف التي حملتها وغذتها هممهم العالية في العمل والصبر والمثابرة، وتحمل مشاق الغربة في البلدان البعيدة ومكابدة الطبيعة الغريبة ومكوناتها الاجتماعية الجغرافية القاسية، فكانوا رسلاً بعد الرسل للسلام والمحبة والتسامح، لامست بساطتهم شغاف القلوب؛ ففي ماليزيا مثلا التي لازالت بصماتهم الروحية والصوفية تهيم في قلوب الماليزين حباً واحتراماً حتى اليوم.
لم يقتصر دورهم على الجانب الاقتصادي بل امتد إلى الجانب السياسي فوصلوا إلى مراتب وزارية ونيابية عُليا في كثير من الدول، أبرزها اندونيسيا وسنغافورة التي ترأسها حاليا امرأة مسلمة زوجها من أصول حضرمية.
وكانت أمانتهم في تجارتهم وصدقهم محطات إعجاب لكل من نزلوا عندهم وحلوا بينهم. دخل الناس الإسلام بفضلهم بعد فضل الله سبحانه وتعالى، واستمر أثرهم لأن طريقتهم في نشره لم تترك الجراحات الروحية والوجدانية التي خلفتها سيوف الفاتحين في بعض البلدان الآسيوية؛ فانقلبوا على أعقابهم خارجين عن الإسلام متنكرين له؛ ومنها دول جنوب الاتحاد السوفيتي سابقاً، وإن كان هناك بقايا إسلام إلا أنه لا يقارن بما تحمله دول جنوب شرق آسيا من حب للإسلام وبناء مساجده ودور قرآنية ودفع زكوات، وقد تفوق درجة معظم البلدان العربية، لأنهم اعتبروا الإسلام حضارة ودين وهوية يتباهون بها أمام باقي القوميات المحيطة بهم.
حضارم اليمن أناسٌ لم تغيرهم دول الأموال والبنوك العملاقة الواسعة، والمتاجر الضخمة والجامعات والفنادق الشاهقة التي امتلكوها، بل كانت أصالتهم أبقى وأدوم تغلبت على كل شياطين المال والأنفس الأمارة بالسوء، امتلكوها بطرق مشروعة حفظها الحلال وأدام بقاءها لأنها الأموال التي دخلت عليهم بطرق مشروعة، ودُفعت على أنصبتها الزكوات المفروضة وأشاعت الخير أينما اتجهت بالمسلم طرق السفر. لم يثنهم الحرص الذي عرفوا به على مساعدة الفقراء وبناء المساجد ودعم حواضر العلم وطلابها في كل تخصص ومجال.
إن التقارب والتسهيلات الماليزية للجالية اليمنية ماهي إلا غيضٌ من فيض الشعاع اليمني الذي تركه الحضارم، فأينما اتجهت هنا رأيت شركة أو متجراً أو معلماً قديماً للحضارم في الشرق، ووجدت العالم والبرفسور والمحامي؛ لقد كانوا هم خلاصة اليمن والعرب في الشرق الآسيوي وسيظلون طالما ظلت الأرواح إلى البلدان تخفق، ورياح المراكب تهب، والسفن في المحيطات تبحر.
حضرموت التميز والأصالة فناً وشعراً وثقافة وتعاملاً وعمل؛ لم يكونوا صغاراً ولم يكونوا هواةً للطمع والسطو وحب السلطة والنفوذ، بل هُضموا وظلموا من قبل الأنظمة اليمنية كما ظُلمت باقي المحافظات اليمنية وحُرمت حضرموت الدان من ثرواتها ومقدرات أبنائها وحقها في العيش الكريم.
وختاماً تظل هذه التساؤلات المُلحَّة، ألا يحق لأبناء حضرموت أينما كانوا وحلوا أن يعودوا إلى حضنهم الدافئ؟ حضرموت الساحل والسهل والداخل؛ ألا يحق لهم سماع الدان الحضرمي تحت سمائها وفي لياليها المقمرة؟ ألا يحق لهم التمتع على شواطئها والاستجمام وسط رمالها الدافئة؟ ألا يحق لهم لملمت أرواحهم الخيرة والعودة لبناء حضرموت العرب وأيقونة الإسلام والمسلمين في الشرق الآسيوي كله؟.. لعل في الغيب خيرٌ ينتظر؛ وكما قال شاعرهم المحضار عن "سعاد" وهو اسم لمدينة الشحر هناك:
بخير آنت وأنا ***با نلتقي في سعاد