كنت قد تطرقت في مقال سابق إلى عوائق قيام الدولة الاتحادية في اليمن وتعمدت تأخير أحد أهم العوائق الذي أحببت أن أفرد له مقالاً خاصاً لأهميته، وحتى يتم مناقشته بعمق أشمل وبحجمٍ أوسع، ألا وهو الشرعية.. لأن الشرعية ابتداء بالرئاسة ومروراً بالحكومة وانتهاء بعسكري المرور تقع على عاتقها مسؤولية عظمى فيما يجري.
الشرعية التي وقف معها العالم بأسرة وهبت لنجدتها دول والتف حولها السواد الأعظم من الشعب.. الشرعية التي يقاتل إلى جانبها وتحت رايتها جيوشٌ وفرقٍ وحشود مهوله، و تُضَخُ دمائها بمختلف الفصائل من مختلف الأعمار، وتنثر أشلاءها في كل الجبهات التي تقاتل لاستعادة الدولة والجمهورية المنتهبة، و لكنها مع كل هذا فشلت، او لنقل لم تنجح حتى الآن!
الشرعية أصبحت عائقاً كبيراً في حسم الحرب، وهو ما أحببت إبرازه وكشف مثالبه وعيوبه في هذا المقال. واتمنى أن يُتلقى بصدرٍ رحب من المعنيين به، لأن مبتغانا هو إنقاذ الوطن والنقد البناء وتحقيق آمال شعبنا في النصر، وإناخة مراكب الحرب التي سدت الآفاق وزرعت في كل بيت ألماً وجراح، ونزولاً عند مقالة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه "رحم الله أمراء علمني عيوبي".
فتاريخياً لم تحسم حرب بدون بذل الجهود اللامتناهية وتجشم عناء النصر بإصرارٍ وصبر. كما أنه لم يقاتل جيش في التاريخ بعيداً عن قياده شجاعة تُلهِمه وتسنده معنوياً في الميادين ومادياً في جبهات القتال. ولم تحسم حرب وأهداف قياداتها تهيم في وادٍ، وأهداف وهمُّ شعبها وجيشها في وادٍ آخر، وحكومة لا تنظر للحرب نظر المخالط لها عن قرب وإنما ترقبها عن بعد حتى لا يطير شرارها على البسة وزرائها فتحرق اويطير غبارها على وجوههم فيذهب بريقها.
ولن ننتصر في هذه الحرب ما لم تمتلك الشرعية مشروعاً واضحاً يلبي طموحات الشعب اليمني، وتتكاثف الجهود الدبلوماسية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية فيها لتشكل حائطاً قوياً منيعاً متيناً واحداً يستحيل اختراقه أو القفز عليه.
لم تنتصر روسيا "جوزيف ستالين" في الحرب العالمية الثانية إلا بعد تصفية 20 ألف ضابط متخاذل وخائن في صفوف جيشها، واستنفار كل قوى المجتمع الاقتصادية والصناعية التي تصنع السلاح والزراعية التي تضخ كل ما زرعت في جبهات القتال والإعلامية التي حشدت وشدت العقول والأرواح باتجاه المعارك وأبرزت عدالة القضية وبينت للعالم جريمة العدوان الهتلري على روسيا دون حق أو سابق إنذار.
دقت نواقيس الكنائس داعية الناس أن يتضرعوا إلى الله بأمر الدولة برغم نكران الشيوعية لذلك حينها في السلم، ورفض المارشال "ستالين" رئيس الاتحاد السوفيتي عرض مبادلة ابنه "ياكوف" الذي أسره الألمان بجنرالٍ ألماني أسير لدى الروس، قائلاً كل أبناء أعضاء الحزب في المعركة ولا بديل لنا غير النصر وهزيمة العدو، ولم ينتصروا على النازية حتى التحق الشعب الروسي كله بالمعركة كلاً في مجاله وفاقاً لتخصصه.
وفي تاريخنا الإسلامي، حشدت قبيلة ثقيف في غزوة هوازن كل ما لديها من أموال وذراري لمواجهة المسلمين حتى يقاتل المقاتل دون أهله وماله فإما أن ينتصر أحدهم أو يموت دفاعاً عن أهله وماله والنماذج في التاريخ العربي والإسلامي في ذلك كُثُر.
تلك إشارات لطبيعة المرحلة وقياداتها أثناء الحرب ومدخلا إلى عامل " الشرعية كعائق للحسم وقيام الدولة الاتحادية" لأن طموح وآمال جُل قيادات الشرعية باتت، مع الأسف، في منأى عن استعادة الدولة والشرعية حقيقة من أيدي الانقلابيين، وتحول إلى صراع بين أجنحة متعددة فيها كلاً يُغني على ليلاه، ويخدم ذاته ومصالحه. ويشبه سيناريو الحرب الجارية كثيراً سيناريو حروب صعدة، بحيث لا تبدو الشرعية معنية بالقضاء على التمرد الحوثي بشكل كلي بقدر ما يوحي سلوكها برغبتها إقصائهم وأضعافهم دون القضاء عليها بشكلٍ كلي ليتم توظيفهم مستقبلاً وفي جولات صراع جديدة ضد خصوم مُحتملين لمرحلة بعد انتهاء الحرب. وهي لعبة خطرة للغاية قد يكون ثمنها دخول اليمن في دوامة صراع لا متناه لعبها صالح فآلت به إلى ما هو عليه.
فقيادات الشرعية ليست على نسق متناسق وعلى قلب رجلٍ واحد فجناح المؤتمر في الشرعية يقوم بنشاط سياسي لا يتناغم مع نشاط باقي التيارات السياسية ودون فاعلية على الأرض ولا يمتلك إلا ولاءات صورية من قبل لمقاتلين في جبهات القتال، مع استحواذه على صناعة القرار إلا ما قل وندر.
وعدم إعطاء باقي القوى السياسية المتواجدة على الأرض كامل حقها في التمثيل السياسي والدبلوماسي، استجراراً لأحداث ثورة 2011م وما قبلها وعيش البعض هواجس ومخاوف الشراكة الحقيقية مع باقي القوى إما لعدم الشعور بثقة الجماهير بها أو التخوف من ثقل باقي التيارات الأكثر تنظيماً وولاءً لأحزابها قياداتٍ ومبادئ.
-تيه القيادات السياسية في الرياض وتشتتها بين عدم القدرة على استعادة الدولة في صنعاء وإخفاقاتها في تثبيت دعائمها في عدن، وعيشها في كابوس أحداث ما قبل الوحدة والصراع المناطقي الفئوي الذي يتم تغذيته من قبل قوى في الداخل عاشت مآسيه، ومن قبل قوى في الخارج لها أطماعها في اليمن سواحلاً وموانئ.
-واللعب على أوراق العنف الذي يمارس من قبل بعض التيارات الدينية المتطرفة وتخويف العالم الخارجي بها، وشن حملة اعتقالات واغتيال وملاحقة الكثير من أئمة المساجد والمحسوبين على بعض التيارات التي ترفض إما فوضى القوى الداخلية أو التدخل الخارجي الغير مسؤول في شؤون وقضايا المواطن البسيط الحامل الرئيسي لدعائم الشرعية مشروعية ونضال في كل الجبهات على أرض الوطن.
كل هذه العوامل تضع الشرعية في موضع المتخاذل ان لم تكن المتهم الرئيس فيما يجري وذلك لعجزها في توظيف القدرات الكبيرة التي لديها فهي تتسلح بدعم جل الشعب اليمني وكذا نُبل القضية وعدالتها إضافة لتحالف عربي وإسناد عالمي. لكنها ومع كل ذلك لم تحسن توظيف هذه العوامل. ويكاد ينطبق واقعنا على ما قاله الاسكندر الأكبر " لا أخاف من جيش من الأسود يقوده خروف، بل أخاف من جيش من الخراف يقوده أسد"