كان شمس الاثنين الفائت مغايرة على شمس الإصباح التي مضت.. كأنها شمس رمضان التي يعرفها عند طلعتها الرعاة والباحثون عن علامات ليلة القدر.
غير أن الناس يوم الاثنين كانوا أيقاظًا، لقد اصطبحوا وساروا باتجاه المدرسة متأنقين. ساحة المدرسة خالية من الطلاب، وأغطية الأقلام ملأى بالتراب وكأنها تعبر عن جيل نصف مقبور. كان الجمع كبيرًا لكن موضوع الحضور لا صلة له بالمدرسة التي لم تفتح بعد. لقد أعلنت الشرعية عن بدء الموسم الدراسي وأعلن الانقلابيون أيضًا وأعلن العالم؛ لكننا في عهد لا نأخذ به الإعلانات على محمل الجد، بل نتلقاها مثل الأخبار السياسية.
التوافد مستمر من القرى القريبة والبعيدة من مختلف أنحاء المديرية.. مسلحون ومعازيل من السلاح، شباب وكبار في السن، ميسورون ومعسورون، طالب وأستاذ يتزاحمون عند باب الفصل.
إنهم في انتظار المنظمة التي ستأتي لتلقي محاضرة على مناديبها ثم توزع أوراق الاستمارات لتدوين بيانات الحالات المستحقة للمعونة.
"هذي المرة السابعة اللي أكتب فيها اسمي، ما يقع لنا إلا.. الحمار" قال شيبة كان حاضرًا، طأطأ رأسه وهو يلاعب حصى الساحة برأس عصاه، أردف: "الناس يأكلوا من فوقنا.. بس هذي المرة قاهيه إلا هيه". كان الكبير متفائلًا باستلام المعونة هذه المرة، وحين سأله أحد الشباب الحاضرين: "ليش هذه المرة با تسلتم"، أجاب: "بينه مكالف يسجلين مع المنظمة".
منذ السابعة صباحًا، والناس في انتظار وصول المنظمة، بدأ الناس يتفرقون بعد الحادية عشر وقت الظهيرة، في الحادية عشر والنصف وصلت سيارة المنظمة وعاد الناس من طرق الرواح. منهم من كان فوق دراجة نارية، منهم من كان فوق سيارة قديمة، ومنهم من يتوكأ على عكازه، يمشون سريعًا وهم مبتسمون. كانوا مثل طلاب هربوا في وقت الراحة، لكن المدير رآهم من نافذة الإدارة، والوكيل نصب لهم فخًا في الطريق.
"انتهت الراحة.. لم يسمح لأحدكم بالترويحة.. جوعى الحرب عودوا إلى المدرسة حالًا".
كان مكبر الصوت يُفتح لمناداة الطالب الهارب، فيعود خجلًا وأحيانًا يتظاهر بأنه لم يسمع، أما هؤلاء فقد عادوا طواعية بمجرد أن رأوا السيارة تنعطف من الطريق الإسفلتي إلى الطريق الوعرة تجاه المدرسة.
لقد انتهت راحة اليمني وبدأ التعب.
الشيبة يأكل فطوره إن تأخر في السادسة والنصف، الوقت الذي يسميه صاحب ملزمة الفلك بوقت الشروق. في غب الظهيرة كان وجه الشيبة ضامرًا وقد هوّل الدَّرد من أخاديد خديه، كان لافحًا. الشاب المسلح يحب المزح، ناداه وانفرد به بعيدًا عنا، تهامسا، انفجر الشاب ضاحكًا، والشيبة مبتسمًا وهو يشتم الشاب..
"يشتي يخطب لي واحده من حق منظمة اليونشيف".. قال الشيبة.
جلس المناديب على كراسي الفصل مذعنين لما يقوله المحاضر عن المنظمة، بينهم الأصلع المعمم وصاحب الرأس الأبيض، الشاب المؤنق تزلفًا للمنظمة، والأغبر الكالح الذي وضع غترة على رأسه وفرك عينيه كي ينبه المنظمة إلى المسغبة التي يعيشها. كان فيها السمين والنحيف، المتكلم والمتلعثم، الذي يفهم بسرعة وبطيء الفهم ومن لم يفهم. الإصلاحي والمؤتمري، المتحوث والمقاوم، ينظرون لبعضهم ويتبسمون بينما المحاضر يلقي كلمته، الكثير يهزون رؤوسهم ويعلقون على الأستاذ في همس ولمز.
فقط نريد النتائج.. نريد شوالات الدقيق..
المواطنون يحتلقون عند الباب في تدافع كبير ويتجهون إلى النوافذ لرؤية ما يقوله الأستاذ.
إذا غضب الأستاذ، يأخذ العصا ليؤدب الطلاب،
إذا غضب أصحاب المنظمات، فسيمنعون المعونات..
وصل أحد الشباب متأخرًا، استعار دراجة نارية حالتها حالة، أتى ليحمل معونته. كادت الدراجة تسقط من عجلة الشاب، صاح بنبرة عالية قبل أن يأخذ وقفته كاملة بسبب تلف في الفرامل:
"لموه اكه تتأخروا، لنا شهرين حرام وطلاق انحنا بالحضيض".
سيرى نساء المنظمة ويخفض صوته، ويتجه إلى النافذة للإصغاء إلى الحصة، المحاضر يلقي على المناديب التعليمات: الأولوية للحوامل والمرضعات، قال الشيبة: حرام وطلاق إنوه في بطن مرتي ثلاثه توأم.
قال الشاب: حرام إنك كذاب.. عادك تجامع هذي الأيام.
وانصرف الجميع وهم يحملون وعودًا مبهمة إلى أجل غير مسمى بدلًا من أن يحملوا شوالات المعونة. في غب الظهيرة، انصرفوا جوعى كما لو أنهم رعاة أغنام مؤمنين، غلبهم النوم في ليلي رمضاني متعب، وحين لم يستيقظوا عند السحور صاموا النهار، صاموا عطوف.
صباح الأربعاء، قال مساعد الأمين العام للأمم المتحدة، إن ملايين اليمنيين على شفا مجاعة.