لا تتوسل رحمة من مطار ولا تنخدع بابتسامة فيه. المطارات هي شفرة حادة للمكان والزمن محارب عنيد. وهي حشد للأحزان والتوديع والبكاء. والذين يعملون فيها تنتزع منهم الرحمة والشفقة تدريجياً. بل العمل في المطارات وفقا لنوبات ثلاث متعاقبة يربك الساعة البيولوجية للعاملين ويؤثر على سلوكياتهم. وعلى قدر حركة المسافرين والعربات والطائرات الي لا تفرق بين الليل والنهار، عكسياً تتجمد مشاعر العاملين في هذه المساحات الموحشة وتتساوى عندهم الوجوه.
وإذا كان البلد فاسداً فإن أكثر الناس فساداً هم العاملون في المطارات. إنه فضاء يجمع عشرات الشرائح والفئات من الموظفين والعمال. القطاع التجاري يرى فيك صاحب مال عليه أن ينتزعه منك باسم الخدمة وموظف الأمن يرى فيك عنصر خطر ينبغي الحذر منك وإبعادك.
في ٢٠٠٣ كنت أعمل في مطار صنعاء كموظف ترانزيت. وكنت في المساء بعد الانتهاء من رحلة ما أصعد مع زملائي إلى صالة الترانزيت المخصصة للركاب الذين يمرون بمطار صنعاء ولا يسمح لهم بدخول المدينة لأسباب كثيرة غير عقلانية أحياناً أولها الفترة القصيرة لعبورهم.
في ٩ ابريل من ذلك العام وفِي المساء منه أكملنا إجراءات رحلة ليلية وراقبنا إقلاع الطائرة وتوجهنا إلى تلك الصالة. كانت أحداث معارك العراق هي حديث الساعة وكان الناس يتغنون بصمود صدام وسرديات الصحاف المثيرة للجدل والسخرية.
كنّا في العادة نشاهد التلفاز كبير الشاشة الموضوع في الصالة والمتوقف على قناة Mbc2 لمشاهدة أفلام بالانجليزية مترجمة نصيا.
ليلتها كان الفيلم حقيقيا. كان التلفزيون يبث مشهد عراقيين في ساحة الفردوس في بغداد يلقون بأحذيتهم على وجه التمثال البرونزي العملاق لصدام حسين.
وكانت إلى جوارهم عربة جيش أميركية كبيرة ولديها رافعة اعتلاها جندي أمريكي وصعد حتى بلغ رأس صدام ووضع عليه خمار من العلم الأميركي.
يتلقى التمثال ضربات عنيفة ويسقط. يسقط صدام وتسقط معه أوهام المقاومة وأكاذيب الانتصارات. وقبل هذا يسقط حلم الفردوس.
بعدها بدأ العراقيون يتقاطرون على مطارات العالم ومنها مطار صنعاء. كان العراقي بوجهه العريض ولكنته وشاربه شبهة كاملة ترفض الأرض ابتلاعه كحبة دواء ضخمة مرة.
واحتضنت تلك الصالة عشرات العراقيين بغية إعادتهم إلى حيث جاؤوا. أكانوا أفرادا أو عوائل، صغارا أو كبارا.
كم شاهدت بأمي عيني توسلات المسافرين العراقيين الهاربين من موت وجحيم الحرب الباحثين عن وطن يؤويهم ويستوعب أحلامهم.
أول الذاهبين هم الكفاءات والأساتذة الجامعين وبالطبع ضباط النظام ولكن حرفيون أيضاً.
كانت وجوه موظفي الأمن والجوازات تتحول إلى كتلة صماء إسمنتية أمام المسافر العراقي. لم تكن المعاملة تقصد الإهانة والإذلال.
بطبعنا نحن اليمنيين نكن لأخوتنا العرب احتراماً كبيراً وللعراقيين خاصة، سيما وقد عملوا منذ مطلع التسعينيات مدرسين في مدارس اليمن. وسبق وأن استقبل اليمن الجنوبي عراقيين كثر خصوصاً من التيار الشيوعي قبل أن تنقلب الآية عليهم.
لكن انهيار العراق جعل العراقي مصدر مشاكل أمنية من الدرجة الأولى. وصارت النظرة إلى العراقي حينها أنه قادم من بلد الحرب والخراب بالتالي لا تأتي منه إلا المشاكل والخراب.
فتح نظام صالح أبواب البلاد لبعض العراقيين دون سواهم واستوعب عدداً منهم في الجامعات أو المؤسسات العسكرية تقديراً منه أنهم سينفعونه في بناء الحرس الجمهوري.
وامتلأت شوارع صنعاء بالعراقيين العاملين في مهن التجميل والمطابخ. سرعان ما ضاق بهم نظام صالح ذرعا مع حروب صعده وذهبوا إلى بلدان أخرى.
مواطنون من بلدان أخرى محتربة تعرضوا للمعاملة نفسها. كم تعذب إخوتنا الصوماليون أو إريتريون. البعض كان يقضى أسابيع في تلك الصالة التي لا تمنحك أدنى خصوصية بانتظار أن يفرج عنه ويدخل صنعاء أو تقبله الدولة التي رحّلته إلينا ويعود من حيث أتى.
رجال ماتوا ونساء ولدن والبعض منهن تركن أطفالهن لعائلة عقيمة تبحث عن طفل. وكم من مريض تعافى أو معافى مرض.
مآسٍ كثيرة احتفظ بها في ذاكرتي وأرجئ الكتابة عنها. لكن وفاة المسافر اليمني في الأردن أثارت في داخلي حزناً كبيراً وأشجاناً كثيرة.
لا كرامة لمواطن انهار بلده. حتى أن اللجوء هو جحيم آخر. واللاجئون في أوروبا يدركون هذا الأمر جيداً وهم بين نارين.
إن ما يلقاه اليمني في مطارات ومدن العالم هو جزء من هذا الخراب الذي حل بنا منذ ان وقع الانقلاب. انه الخطيئة الأولى التي ينبغي علينا أصلاحها أولا.