لا أظن أن كيري حين كان يتحدث عن الحوثيين كأقلية قبل أشهر، كان يتغافل عن أن حقوق وحريات وواجبات الأقليات، لا تتحقق إلا في ظل المواطنة المتساوية أمام القانون.. وأن غاية أي أقلية أن تتساوى مع الأكثرية في الحقوق المدنية والسياسية..
إنه في أمريكا وأوروبا ودول العالم المتقدمة مثلاً، يصبح الفرد مواطناً لإحدى هذه الدول في غضون سنوات سريعة، بغض النظر عن التمايزات العديدة للأفراد أو حتى للجماعات داخلها، فيما المواطنة كأعظم ارتقاءات البشرية، هي أساس الاندماج في العالم المتحضر، كما أنها تتضمن احترام الهويات الثقافية لكل فئة وطائفة وفرد في المجتمع، على أن لا تلغي مبدأ المواطنة نفسه، وهو صاحب الإجماع المجتمعي، وكنتاج لسياسات مدروسة تطورت عبرها البشرية..
ومن البدهي أن من حق الأقليات في أي مجتمع، التمتع بثقافتها الخاصة وممارسة دينها وعقائدها وطقوسها، واستخدام لغتها بحرية، والمشاركة في الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية العامة، مشاركة فعلية ناضجة مع احترام التعاقد الدستوري أو الديمقراطي المدني، الذي كفل لها ولغيرها هذا الحق، مع ضرورة احترام الجميع لتعدد الأطياف والأعراق والإثنيات في تشكيلة المجتمع..
أو بمعنى آخر تصبح الأقليات مجرد وهم، حين تكون هناك مواطنة مدسترة -بغض النظر عن الوعي الثقافي القاصر تجاهها عربياً أو يمنياً، فهذا يحتاج إلى تراكم وتنوير طبيعيين - بينما تتحول الأقلية إلى مأزق أخلاقي وإنساني ووطني حين يكون هناك ثمة دستور يمنع كل من ينتسب لسلالة معينة مثلا، أو إلى دين معين في أي مجتمع عن حقوق وحريات وواجبات المواطنة المتساوية، أو حين تستولي أقلية أو حتى أكثرية بالقوة على الحكم، وتمارس الطغيان وتبرره دينياً وثقافياً..
لكن بما أن الديانات مثل المذاهب عبارة عن شأن فردي وعلاقة الفرد بربه قيمة مرتبطة بالفرد، فلا أقليات في ظل المواطنة المتساوية أصلاً من هذه الناحية، لأن المنتسب لها هو مواطن قبل أي شيء آخر، والدولة كيان معنوي اعتباري، يحمي الناس من أنفسهم وينظم تعددهم وصراعاتهم، ولا ينبغي أن يترتب على الاختيار الديني أي امتياز سياسي للمواطن، لأنه يعرف كمواطن أمام القانون الجامع فقط..
ولذا من غير المعقول أن ثمة حقوقاً سياسية استثنائية استعلائية وتمييزية لصالح فئة ضد أخرى دستوريا وقانونياً مهما كانت هذه الفئة وذرائعها وتبريراتها، بإعتبار أن المواطنة هي من تحمي كرامة الإنسان كإنسان دون تمييز، والمواطن كمواطن دون إقصاء، ومن كل النواحي وعلى كافة المستويات، بغض النظر عن انتماءاته الدينية أو العرقية أو القومية أو اللغوية أو اللونية أو الحزبية إلخ، فوحدها المواطنة فقط من باستطاعتها استيعاب كافة روافد الشعب داخل الدولة الحاضنة واللاطبقية وبمنتهى العدالة أيضا.. ذلك أن جميع الناس ولدوا أحرارا ومتساوين بقدرهم وبحقوقهم ووواجباتهم وحرياتهم المكفولة دستورياً، ويتوجب عدم التمييز بينهم وكذا تجريم العنف والتفرقة العنصرية والطائفية والمناطقية بالمحصلة.
ثم إن الفكر الذي يعادي المواطنة المتساوية، من الصعب مجاملته طويلاً، فيما العصبية لكونها مع التمييز وعدم الإنصاف، فهي ضد المواطنة دائما. و فضلاً عن ذلك فإن قضية التجانس الوطني، ودولة الجميع لا دولة الغلبة، ينشدها الجميع دون استثناء إلا الذين يبررون لأنفسهم أنهم فئة مافوق يمنية.. ومن هذا المنحى كان ومازال من الطبيعي أن تكون هوية مايسمى بآل البيت، ضمن الهوية اليمنية الوطنية المتنوعة والجامعة، أي في إطار المواطنة والمساواة فقط، لا باعتبارها كهوية فوقية، سياسياً بالذات.
وإذا كانت كل أقليات العالم المضطهدة، هي أنا وأنت وهو من منحى إنساني تضامني، فإن كل أقلية تمارس الاضطهاد على الآخرين هي عدوتنا.. فلا أسوأ من اضطهاد الأكثرية للأقلية إلا اضطهاد الأقلية للأكثرية طبعاً!..
بل شئنا أم أبينا يجب أن نفهم أن المهمة الحقيقية للديمقراطية الفاعلة في أي مجتمع، هي حماية الأكثرية من ديكتاتورية الأقلية، وحماية الأقلية من ديكتاتورية الأكثرية أيضاً.. لذا لا حل في اليمن سوى أن نكون مع المشروع المدني الديمقراطي حتى وإن توحدت جميع مراكز القوى المعززة بالسلاح ضده. فاليمنيون لم يخلقوا ليكونوا تابعين.. وهم ليسوا قطيعاً بل شعباً، فلا يمكن لشخص ما أن يستلبهم ويخادعهم باسم الدين أو المنطقة، والأرجح أن كل مشروع مدني ديمقراطي جامع هو من أجل المشترك الإنساني والوطني وضد الاستغلال السياسي للدين، كما ضد التسلط والاستبداد أيا كان صنفه ونوعه.
ولنقف ضد أي عقد فئوي مغشوش لادستوري، يخرب المجتمع والدولة، إذ لا يدعو للتعايش والتسامح بقدر ما يضرب الفكرة الوطنية تماماً، ويجعل الولاءات لأمراء الطوائف بدلا عن الدولة، بل إن الأخطر هو خوض هؤلاء الأمراء حروباً وطنية طائفية بالوكالة عن الدول الراعية لحلفائها المذهبيين للأسف.
والمطلوب تنمية الوعي بالعقد الاجتماعي الدستوري بين أبناء الوطن الواحد.. فلا يوجد في الدستوري أي امتيازات لأقلية وأكثرية، فالدستور هو العقد الذي ينظم حرية وحقوق اختيار المواطنين كمواطنين في مسألة الاعتقاد.. فلا يجبروا المختلف عنهم بالقوة أو بالإكراه لإتباعهم.. المهم: انبثاق دولة تصون هذا الاختلاف، تحت سقفها وتمنع خطابات الكراهية والكراهية المضادة، كما تجرم فتاوى إهدار الدم باسم الإختيار المذهبي.. دولة تجعل الفرد يفهم أن اختياره مسألة شخصية خاصة به، مهما كان هذا الاختيار وأن نجاة النسيج المجتمعي هو غايتنا جميعاً بدون استثناء (غاية أن نعيش كيمنيين وأن نحترم الجمهورية والديمقراطية في البعد السياسي) فيما على البعد العقدي أن يعزز من قيمة السلام بين أبناء الوطن الواحد.
نعم .. هذا ما يجب أن نفهمه ونسعى من أجله حيث لا بديل للتعايش الوطني غيره، بلا اضطهادات عقدية ولا إجبارات ولا تعسفات ولا استقواءات من أي نوع.. لكن أيضاً بلا خطابات أحقاد أو تحريضات من شأنها أن تنمي مشاعر التطرف الإنحطاطي البغيض الذي لا يمكن أن نستمر ندفع فاتورته الهبائية جيلاً بعد آخر.
وبما أننا نريد لنا جميعاً مواطنة متساوية وقوانين يخضع لها الجميع، نابعة من دستور ضابط للحقوق وللحريات وللكرامات وللعدالات، مانعاً بالتالي للاصطدامات البدائية ومسبباتها فإن الأهم من هذا كله: وضع ميثاق شرف وطني بين القوى الدينية والسياسية على تجريم البعد المذهبي في العمل السياسي والعمل العام، إضافة إلى إنجاز خطط استراتيجية حقيقية لتعليم رسمي تنويري جديد ( آخذين بالاعتبار أهمية الدرء الحاسم لخطورة التعليم الديني في تغذيته للتطرف من قبل كل الأطراف للأسف)كما لنزع السلاح المنفلت الذي لا يحترم فكرة الدولة من كل الأطراف.